١ - الرب قناني أول طريقه
وأول مجموعة من الآيات التي تقابلنا في الكتاب المقدس، والتي تبدو في ظاهرها مناقضة للإيمان بأن المسيح هو الله هي الآيات الموجودة في سفر أمثال، وهذه هي: «أَنَا ٱلْحِكْمَةُ أَسْكُنُ ٱلذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ ٱلتَّدَابِيرِ... لِي ٱلْمَشُورَةُ وَٱلرَّأْيُ... بِي تَمْلِكُ ٱلْمُلُوكُ... أَنَا أُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَنِي، وَٱلَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي. عِنْدِي ٱلْغِنَى وَٱلْكَرَامَةُ. ... اَلرَّبُّ قَنَانِي أَّوَلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ ٱلْمِيَاهِ. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ ٱلْجِبَالُ، قَبْلَ ٱلتِّلاَلِ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَنَعَ ٱلأَرْضَ بَعْدُ وَلاَ ٱلْبَرَارِيَّ وَلاَ أَّوَلَ أَعْفَارِ ٱلْمَسْكُونَةِ. لَمَّا ثَبَّتَ ٱلسَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ. لَمَّا أَثْبَتَ ٱلسُّحُبَ مِنْ فَوْقُ. لَمَّا تَشَدَّدَتْ يَنَابِيعُ ٱلْغَمْرِ. لَمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى ٱلْمِيَاهُ تُخْمَهُ، لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ ٱلأَرْضِ، كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِماً قُدَّامَهُ. فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ، وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أم ٨: ١٢ - ٣١).
والآيات تثير في ذهن القارئ الأسئلة الآتية:
ما معنى ما يقوله المسيح عن نفسه باعتباره «الحكمة» «الرب قناني أول طريقه؟»، وما معنى كلماته إذ لم يكن غمر أبدئت؟ فهل لم يكن المسيح موجوداً ثم أبدأه الرب؟ وإلى من يعني هذا أن المسيح ليس أزلياً مع الآب وعلى هذا لا يكون هو ابن الله؟
ولكي نجيب عن هذه الأسئلة يجب أن نستخدم قوانين التفسير الصحيح، فنقرأ الأصحاح كله، بل نقرأ سفر أمثال جميعه لنعرف معنى هذه الآيات.
فالمتكلم الذي يقول: «الرب قناني أو اقتناني أول طريقه» بدأ حديثه بالكلمات «أنا الحكمة.. لي المشورة والرأي.. بي تملك الملوك.. أنا أحب الذين يحبونني.. عندي الغنى والكرامة».
وفي الأصحاح الأول نقرأ عنه الكلمات: «اَلْحِكْمَةُ تُنَادِي فِي ٱلْخَارِجِ. فِي ٱلشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا. تَدْعُو فِي رُؤُوسِ ٱلأَسْوَاقِ، فِي مَدَاخِلِ ٱلأَبْوَابِ. فِي ٱلْمَدِينَةِ تُبْدِي كَلاَمَهَا قَائِلَةً: إِلَى مَتَى أَيُّهَا ٱلْجُهَّالُ تُحِبُّونَ ٱلْجَهْلَ، وَٱلْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِٱلاسْتِهْزَاءِ، وَٱلْحَمْقَى يُبْغِضُونَ ٱلْعِلْمَ؟ اِرْجِعُوا عِنْدَ تَوْبِيخِي. هَئَنَذَا أُفِيضُ لَكُمْ رُوحِي. أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتِي. لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ، وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي، بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي، وَلَمْ تَرْضُوا تَوْبِيخِي. فَأَنَا أَيْضاً أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ» (أم ١: ٢٠ - ٢٦).
فمن ذا الذي له المشورة والرأي؟ إلا ذاك الذي تنبأ عنه إشعياء بالكلمات: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إش ٩: ٦).
ومن هو ذاك الذي يفيض روحه على الراجعين إليه؟ إلى ذاك الذي تكلم عنه بطرس قائلاً: «يَقُولُ ٱللّٰهُ: وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ» (أع ٢: ١٧).
فالمتكلم في هذه الآيات يسمي نفسه «الحكمة» ولكنه لا يظهر «كصفة» بل «كشخص» لأنه يعلن عن ذاته بالكلمات «أنا أحب الذين يحبونني» والصفة تحب ولكنها لا تحب، فالمتكلم إذاً هو المسيح الرب «المشير» الذي يسكب من روحه على الراجعين إليه، والمذخر فيه جميع كنوز الحكمة (كو ٢: ٣).
والواقع أن التأمل في هذا الجزء من كلمة الله يرينا الثالوث العظيم بكيفية واضحة.
- فالآب يظهر في الكلمة «الرب».
- والابن يتحدث عن نفسه قائلاً: «منذ الأزل مسحت».
- والروح القدس هو المسحة كما قال بطرس الرسول «يسوع.. كيف مسحه الله بالروح القدس» (أع ١٠: ٣٨).
- فالآيات ترينا في وضوح «المسيح ابن الله» مساوياً للآب، وموجوداً معه منذ الأزل، لأن الحكمة تلازم الله ملازمة أزلية، فأزلية الله وأزلية الحكمة صنوان لا يفترقان.
- كما ترينا وحدانية الآب والابن في اللاهوت، ومعية الابن مع الآب منذ الأزل كما قال يوحنا الرسول: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ» (يو ١: ١).
أما الكلمات التي نحن بصدد تفسيرها والتي تقول: «الرب قناني أول طريقه.. منذ الأزل مسحت منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أبدئت» فإنها تشير بوضوح إلى عمل المسيح الكفاري، وعلاقة هذا العمل «ببني آدم» أي أن النص يعلن عمل المسيح في الزمان وفرحه في مسكونة أرضه ولذته ببني آدم الذين فداهم فقبل أن تقررت الجبال، وقبل أن تصنع الأرض أو أول أتربة المسكونة كان الثالوث الواحد الحكيم قد رتب عمل الفداء العظيم، عن طريق تجسد «الله الابن» في ملء الزمان كما قرر بطرس الرسول بكلماته «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (١ بط ١: ١٨ - ٢٠).
وعلى هذا فإن «الحكم» الذي هو «الله الابن» يقول: الرب قناني أول طريقه.. منذ الأزل مسحت منذ أوائل الأرض.. إذ لم يكن غمر أبدئت معلناً بهذه الكلمات أنه الممسوح من الآب أو المعين منذ الزل للقيام بعمل الفداء فوق الصليب، ولذا فهو يختتم كلماته بالقول «فَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلْبَنُونَ ٱسْمَعُوا لِي - فَطُوبَى لِلَّذِينَ يَحْفَظُونَ طُرُقِي. ٱسْمَعُوا ٱلتَّعْلِيمَ وَكُونُوا حُكَمَاءَ وَلاَ تَرْفُضُوهُ. طُوبَى لِلإِنْسَانِ ٱلَّذِي يَسْمَعُ لِي سَاهِراً كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ مَصَارِيعِي، حَافِظاً قَوَائِمَ أَبْوَابِي. لأَنَّ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ ٱلْحَيَاةَ وَيَنَالُ رِضًى مِنَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ يُخْطِئُ عَنِّي يَضُرُّ نَفْسَهُ. كُلُّ مُبْغِضِيَّ يُحِبُّونَ ٱلْمَوْتَ» (أم ٨: ٣٢ - ٣٦). وهذه الكلمات تعلن عن علاقة المسيح بالبشر ودعوته لهم لقبوله مخلصاً، وتحذيرهم من رفضه، وهي تتفق تماماً مع كلماته في العهد الجديد: «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ» (يو ١٠: ١٠). «أَمَّا أَعْدَائِي، أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَٱذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي» (لو ١٩: ٢٧).
إن الكلمات «الرب قناني أول طريقه» ترينا أن الرب يسوع باعتباره الحكمة - كان مع الآب منذ الأزل، وأنه صانع كل الأشُياء كقوله: «كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً» (أم ٨: ٣٠) وأن الله لم يبدأ عملاً من أعمال إلا به كما نقرأ في الكلمات: «ٱلْحِكْمَةُ هِيَ ٱلرَّأْسُ» (أم ٤: ٧) «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مز ١٠٤: ٢٤). «ٱلرَّبُّ بِٱلْحِكْمَةِ أَسَّسَ ٱلأَرْضَ» (أم ٣: ١٩) «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يو ١: ١ - ٣). «فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ ٱلْكُلُّ: مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى ٱلأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. ٱلْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ» (كو ١: ١٦). «اَللّٰهُ... كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ ٱلْعَالَمِينَ» (عب ١: ١ و٢).
فالمسيح هو «الحكمة» هو «الله الابن» الذي عنده الغنى والكرامة، والذي من يجده يجد الحياة كما قال يوحنا الرسول: «مَنْ لَهُ ٱلابْنُ فَلَهُ ٱلْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ فَلَيْسَتْ لَهُ ٱلْحَيَاةُ» (١ يو ٥: ١٢). والذي من يخطئ عنه يضر نفسه، وكل مبغضيه يحبون الموت، وإذا لم يكن هو «ابن الله» الذي فيه كانت الحياة، فأي ضرر يصيب الإنسان الذي يخطئ عنه والذي يبغضه؟
إن الآيات التي أوضحنا معناها في هذا المقام تؤكد لاهوت المسيح ولا تناقضه بحال من الأحوال، أما كلمة «أبدئت» التي وردت في النص فسنتركها حتى نأتي إلى تفسير الآية الموجودة في سفر رؤيا يوحنا والتي تقول كلماتها: «هٰذَا يَقُولُهُ ٱلآمِينُ، ٱلشَّاهِدُ... بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ ٱللّٰهِ» (رؤ ٣: ١٤). فليعد القارئ إلى تفسيرها في موضعها من هذا الكتاب.
٢ - ابن الإنسان والروح القدس
نقرأ في إنجيل متى الكلمات: «وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلاَ فِي ٱلآتِي» (مت ١٢: ٣٢).
وتُظهر هذه الكلمات أمام القراءة السطحية أن لا مساواة بين المسيح والروح القدس، وأن المسيح هو «إنسان» كسائر الناس لأنه يسمي نفسه «ابن الإنسان» ولأنه طالما كرر هذا اللقب في حديثه عن نفسه، بينما لم يقل إنه ابن الله صراحة إلا في موضعين (يو ٩: ٣٥ ويو ١٠: ٣٦).
والسبب الذي من أجله يُغفر لمن يقول كلمة على ابن الإنسان، ولا يغفر لمن يجدف على الروح القدس، ليس هو عدم المساواة بين المسيح والروح القدس، بل هو أن المسيح جاء لخلاص الناس «لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لو ١٩: ١٠) و «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ» (يو ٣: ١٧). لذلك طلب المسيح وهو على الصليب الغفران لصالبيه والمجدفين عليه قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو ٢٣: ٣٤).
ولكن لأن الروح القدس هو الذي يعلن المسيح المخلص للنفس الهالكة كما يقول بولس الرسول: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (١ كو ١٢: ٣). وهو الذي يبكت الخطاة على خطاياهم ويقودهم إلى التوبة الحقيقية كما قال الرب: «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يو ١٦: ٨)، لذلك فإن من يجدف عليه فلا غفران له إلى الأبد، ويعني التجديف على الروح القدس أن ينسب الإنسان العمل المبارك الذي يعمله الروح القدس إلى الشيطان، ويرفض بعناد توسلات الروح القدس وتبكيته لإرجاعه إلى الرب، وهذا يصل بالإنسان إلى القساوة القلبية تماماً كما حدث مع الفريسيين الذين أسندوا معجزات المسيح إلى «بعلزبول». ورفضوا نداءه لهم بالتوبة والرجوع إلى الله. فأعلن لهم المسيح أنهم أولاد الأفاعي، وأنهم جيل فاسق شرير، رغم حديثهم البراق بالصالحات، في حين أن قلوبهم ملآنة بالشر، ولأن الروح القدس هو العامل في التجديد، وإعلان المسيح المخلص للنفس، فرفض توسلاته عن عناد وإصرار ومعرفة يحرم الإنسان من نتائج عمله، وبالتالي يحرم من الغفران إلى الأبد، كما قال الله في أيام نوح: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (تك ٦: ٣).
وأما تسمية المسيح نفسه بأنه «ابن الإنسان» فهو تأكيد لكمال ناسوته، وأنه جاء ليموت بدلاً عن الناس ونائباً عنهم بعتباره «الإنسان الثاني» الذي هو في ذات الوقت «الرب من السماء» (١ كو ١٥: ٤٧)، ولأنه «الرب من السماء» وفي ذات الوقت هو «الإنسان الثاني» فهو غير محدود، وهو خالق كل البشر وكل الوجود، ولذا فإن في موته الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال يوحنا الرسول: «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١ يو ٢: ٢) وعلى هذا فإن آلامه فوق الصليب، لا تقاس بمقياس الزمن الذي قاسى فيه الألم، بل بمقياس شخصه الفريد المجيد، ذلك لأن الإساءة التي توجه إلى شخص حقير تصبح عملاً فظيعاً لو وُجهت بذاتها إلى ملك او رئيس كبير!!
ولو أننا تتبعنا الآيات التي أعلن المسيح فيها عن نفسه أنه «ابن الإنسان» لرأينا فيها إعلانات رائعة عن سر تجسد المسيح، فهو لم يأت إلى العالم بحثاً عن راحة لنفسه «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (مت ٨: ٢٠) ولكنه جاء ليُرفع على الصليب فداء عن الخطاة «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٤ و١٥). وجاء ليطلب ويخلص ما قد هلك (لو ١٩: ١٠) وسوف يأتي بقوة ومجد كثير (مرقس ١٣: ٢٦ و٢٧).
ولقب «ابن الإنسان» الذي أطلقه المسيح على نفسه مراراً يؤكد لنا لاهوته مع ناسوته. ويعود بنا إلى ما جاء في سفر دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دا ٧: ١٣ و١٤). فابن الإنسان هو موضوع عبادة الشعوب وهو صاحب السلطان الأبدي.
وإيماننا بقدرة الله على كل شيء يدفعنا إلى الإيمان بقدرته على التجسد دون حدوث تغيير في لاهوته، تماماً كما نؤمن أن الكهرباء تتجسد في الأسلاك، والمغناطيسية في الحديد دون أن تتغير طبيعة الأسلاك، أو طبيعة الحديد، أو طبيعة الكهرباء.
ولذا فقد أعلن المسيح عن نفسه لنيقوديموس بالكلمات: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يو ٣: ١٢ و١٣). فابن الإنسان الذي كان يتكلم مع نيقوديموس في الأرض، كان يملأ السماء بلاهوته. فاللقب «ابن الإنسان» الذي نجده في الآية التي نحن بصددها لا يظهر فرقاً بين المسيح والروح القدس في اللاهوت ولا يلقي شبهة على لاهوت ربنا المبارك، بل تؤكد الأجزاء التالية له حقيقة لاهوته فهو أعظم من يونان وسليمان وهو في ذات الوقت «ابن الإنسانية» كلها.