لقد تمنى أيوب أن يجد مصالحاً يضع يده على يده كإنسان، ويضع يده على يد الله كإله، أو في تعبير أدق تمنى أن يتجسد «الله» في صورة إنسان، لكي يصالحه مع نفسه.
وفي تجسد المسيح وموته على الصليب تمت المصالحة التي تمناها أيوب وهو يتكلم بلسان الإنسان الباحث عن الطريق إلى الله، كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كو ٥: ١٨ - ٢١). وكما قرر في رسالته إلى تيموثاوس قائلاً: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (١ تي ٢: ٥ و٦).
ويقول دكتور كامبل مورجان أستاذ الكتاب المقدس: إن الكلمة اليونانية (Antiulutron) المترجمة إلى «فدية» لا توجد في كل العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفوق ذلك فإنها كلمة غير معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية، ويبدو لي أحياناً أن الروح القدس قد قاد بولس لصياغة كلمة جديدة باستخدامه لهذه الكلمة.
وعند فحص الكلمة «فدية» نرى أنها تشير إلى عمل بواسطته رفعت الخطية التي فصلت بين الله والإنسان بل إلى عمل رفع الإنسان من منطقة الوجود العقلي إلى منطقة الوجود الروحي، وهذا يعني أن المسيح قد أعاد بفدائه إمكانية الشركة المباشرة بين الله والناس، يجد أن الشر الذي أعمى عينيه، وأفقده الاحساس السليم بالله، قد أُزيل، وأن التعامل المباشر بينه وبين الله أصبح اختباراً عملياً في حياته، فنوال بركات الفداء مشروط بالتوبة الحقيقية عن الخطية، والإيمان القلبي الشخصي بيسوع المسيح «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أع ٢: ٣٨) وهذا الإيمان القلبي يحدث تغييراً حقيقياً في الحياة والاتجاهات كما قال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢ كو ٥: ١٧).
ففداء المسيح لا يشجع الخاطئ على الاستمرار في خطاياه بل على العكس يغير حياته، ويعطيه قلباً جديداً يتجه إلى الله.
وإذا قال مؤلف كتاب كيف ولماذا؟ إن الصلب كان عملاً همجياً ووحشياً، أجبناه: أجل لقد كان كذلك من جانب الإنسان، الإنسان الذي ظهر في قمة شره يوم اختار باراباس اللص للحرية، وطلب من بيلاطس أن يصلب يسوع المسيح القدوس، ولقد كان المسيح له المجد قادراً على حماية نفسه والتنحي عن الصليب، لكنه ارتضى أن يموت طوعاً نيابة عن البشر، ولأنه خالق البشر بل خالق كل الأشياء ففي قدرته إذاً أن يفدي خليقته لأنه يزيد عنها قيمة لو وضعت أمامه في كفة الميزان، لذا كان في دمه الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال عنه يوحنا الرسول «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يو ٢: ٢) أجل كان هو «الذبح العظيم» الذي فدى بدمه الإنسان.
وقد عرف الله مقدماً وحشية الإنسان وهمجيته، عرف «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك ٦: ٥) ولكنه حوّل بحكمته شر الإنسان وهمجيته لخير البشرية الرازحة تحت أثقال أوزارها كما قرر بطرس في كلماته القائلة: «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع ٢: ٢٣) وهذه هي الحكمة الإلهية التي أوضحها بولس بالكلمات: «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كو ١: ٢٣ و٢٤).
لقد سمح الله القادر على كل شيء للناس الضعفاء أن يكونوا المحكمة، والقاضي، والمحلفين، والنيابة، ومنفذي القانون، حتى ينفذوا في ابنه حكم الموت الذي كان لا بد أن ينفذ فيهم، وحتى يروا مدى فظاعة ما فعلته الخطية بهم إذ جعلتهم يصلبون ابن الله الذي أحسن إليهم، وذلك عندما يتأكدون من حقيقة الشخص الذي مات لأجلهم.
وفي القديم عامل أبناء يعقوب أخاهم يوسف بالشر فباعوه عبداً للتجار الاسماعيليين، الذين باعوه بدورهم إلى «فوطيفار» في مصر، ولكن الله حول شرهم لخير يوسف وخير الناس وخيرهم. ولما أتوا إليه بعد موت أبيه قائلين «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هٰكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! ٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلٰهِ أَبِيكَ... فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ ٱللّٰهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا ٱلْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تك ٥٠: ١٦ - ٢٠).
هكذا كان أيضاً في «صلب المسيح» قصد به صالبوه شراً، وقصد به الله فداء أبدياً، ولأن الفادي لا بد أن يكون إلهاً وإنساناً في وقت واحد لكي يتمم بحق عملية الفداء، إذ لا يعقل ولا يُستساغ أن يكون الحيوان أياً كان نوعه أو فصيلته فداء للإنسان، ولأن الفداء أمر حتمي لينال به الإنسان الغفران. فلهذا السبب يتحتم الإيمان بأن المسيح هو الله.
(٣ ) السبب الثالث لحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله، هو حتمية إعلان الله عن ذاته للإنسان: من أول مبادئ علم اللاهوت، إن فكرة الإنسان عن الإله الذي يعبده تطبع أثرها العميق في حياته العملية، لأن الناس يتمثلون في حياتهم اليومية بالإله الذي يعبدونه كما قال كاتب المزمور في الكلمات: «لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟» إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا» (مز ١١٥: ٢ - ٨).
لذا فمنذ البدء تاق الإنسان أن يرى الله وتجسد شوقه في كلمات قديسي القدم، فقال أيوب: «مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!» (أي ٢٣: ٣) وقال موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر ٣٣: ١٨) وقال إشعياء: «لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ» (إش ٦٤: ١) وقال فيلبس: «أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا» (يو ١٤: ٨).
وشوق الإنسان لرؤية الله ليس أمراً غريباً، فلقد خلق الله الإنسان على صورته، وقبل أن يسقط الإنسان في الخطية كانت له علاقة مباشرة مع الله، فلقد كان الله يأتي إليه في الجنة، ويبدو أن الإنسان في برارته قد رأى الله، فلما سقط أثرت الخطية في ذهنه، وتشوهت الصورة الحقيقية التي كانت في فكره عن الله، فكان لا بد أن يعمل الله شيئاً ليعيد صورته الصحيحة إلى ذهن الإنسان، وقديماً عبر المرنم العبري عن شوقه إلى الله بالكلمات: «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مز ٤٢: ١).
وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ويقيناً أن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز ١٩: ١) لكن قدرة الله الظاهرة في الطبيعة تشعر الإنسان بتفاهته، بل تشعره ببعد الله عنه وعدم اهتمامه به كما عبر دواد عن ذلك بالكلمات «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مز ٨: ٣ و٤).
إذاً فقد كان من المحتم أن يتجسد الله ليعلن للإنسان أنه قريب منه، ويظهر له عنايته به، ويؤكد له اهتمامه بدقائق حياته، ويشبع في ذات الوقت أشواق قلبه.
وتجسد الله كان دائماً هو رجاء الإنسان، فالوثنيون آمنوا بإمكان تجسد الله فقالوا عن بولس وبرنابا: «إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» (أع ١٤: ١١).
واليهود آمنوا بإمكانية ظهور الله في الجسد فنحن نقرأ في سفر التكوين عن ظهور الرب لإبراهيم في الكلمات: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ» (تك ١٨: ١).
وكذلك نقرأ عن ظهور الله لمنوح وامرأته في صورة رجل في الكلمات: «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ» وبعد أن صعد الرجل في لهيب المذبح إلى السماء، أدرك منوح أن ذلك الرجل كان هو الله ظاهراً في صورة رجل فقال لامرأته «نمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قض ١٣: ١٠ و٢٢).
وقد كتب الدكتور «أحمد زكي» في عدد ديسمبر سنة ١٩٥٦ من مجلة الهلال في مقال بعنوان «الله والناس» هذه الكلمات:
«إن العامة تستجيب للأشياء بمقدار ما تحسها، وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة، ولو ملأ السماء والأرض.
وفي سبيل إيضاح المبهم، وتجسيد ما لا يتجسد، نسبت الأديان جميعاً إلى الله ما يأتلف والتجسيد، تقريباً لمعنى الله من أفهام العامة، والعامة بعد هم جمهور الناس في كل زمان، وإلى زماننا هذا.
وأعطى القرآن لله يداً:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (سورة الفتح ٤٨: ١٠).
وأعطى القرآن لله وجهاً:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن ٥٥: ٢٦ و٢٧).
وأعطى القرآن لله عيناً:
«قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (سورة طه ٢٠: ٣٦ - ٣٩).
وما كان لله يد تأخذ وتعطي
وما كان لله وجه يبقى وقد فنيت الوجوه
وما كان لله عين ترى، ثم لا ترى
إنه التجسيد الذي لا بد منه» ا.ه
كانت الأم تعلم طفلها أن الله موجود في السماء، وذات يوم تطلع الصغير إلى السماء وبكى، فلما سألته أمه عن سر بكائه قال:
«أريد يا ماما أن يفتح الله السماء وينزل لكي أراه».
ولقد تجسد «الله» في المسيح لكي يعلن عن ذاته وصفاته للناس كما قال بولس «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تي ٣: ١٦).
في كتاب ظهر سنة ١٩٦٦ تهجم أحدهم على عقيدة التجسد فقال: «لو كان المسيح إلهاً حقاً لكان ظهور الله في تلك الصورة البشرية داعية إلى التشويش على التفكير الإنساني في سبيل التعرف على الله إذ أن الله بظهوره في تلك الصورة المجسدة قد أعلن ذاته، وكشف للناس عن وجهه، وصار قريباً مدانياً لهم، بعد أن ظل دهوراً طويلة، محجباً عنهم، في بهائه وجلاله، لا تناله الأبصار ولا تحتويه العقول!
فهذا الإعلان - في الواقع - فوق أنه داعية لشرود العقل، وتشتت الفكر في ذات الله - هو إعلان يقلل من شأن الله، وينقص قدره ويذهب بالكثير من جلاله وعظمته، وما تتلقى النفوس من مشاعر الولاء والخضوع لله الكبير المتعال. حين تنظر إليه من وراء حجاب!
فالنفس البشرية طلعة، تتوقد اشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لها المجهول، أو ظهر لها الغيب سكنت نزعاتها، وبردت أشواقها نحو هذا الشيء، الذي كانت تسعى إليه وتجد في البحث عنه!
«ولو ظهر الله للناس عياناً - على يقين استحالته - لسقطت هيبته من النفوس بعد حين، ولجاء اليوم الذي يصبح «الله» وهو يغدو ويروح بين الناس، كواحد من الناس!» ا.ه
وكلمات من هذا الطراز تصدق على البشر لكنها لا تصدق على الله، لان البشر تزداد هيبتهم حين يختفون وراء حجاب، وتسقط هيبتهم حين يندمجون بين الناس فتظهر عيوبهم وخطاياهم، أما الله جل وعلا فإن هيبته تزداد في أي صورة يظهر بها للناس ولذا فعندما جاء يهوذا التلميذ الخائن، والجند، والخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسين بمشاعل ومصابيح وسلاح للقبض على المسيح نقرأ حينئذ الكلمات «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى ٱلأَرْضِ» (يو ١٨: ٤ - ٦).
فهل رأيت متهماً يذهب الجنود للقبض عليه، فيتراجعون أمام بهاء مجده، ويسقطون أمام جلاله على الأرض؟
لقد حدثنا التاريخ عن القبض على نابليون، وعن موت الدكتاتور الإيطالي «موسوليني» الذي داسه شعبه بالأقدام... فلم نر جنوداً في مركز القوة يسقطون أمام واحد منهما على الأرض... لكن المسيح له المجد، أسقط ببهائه ومجد لاهوته الجنود الذين جاؤوا للقبض عليه، لكي يعلن لنا أنه سلم ذاته للموت ليس عجزاً منه بل طوعاً واختياراً لفدائنا.
وحجة القائل أن تجسد الله يسقط هيبته، حجة باطلة، فالناس سوف يقضون أبديتهم مع الله وفي رحابه، يرونه ويتحدثون إليه ويزدادون خشوعاً قدامه وإجلالاً لشخصه تبارك اسمه.
إن الطبيعة تعلمنا أنه من الممكن للأعلى أن ينزل إلى الأدنى، بينما يستحيل على الأدنى أن يرتقي من ذاته إلى الأعلى. يقول «م. ه. فنلي» في كتابه «منطق الإيمان» : «إننا نقسم العالم حولنا إلى ممالك ثلاث: المملكة المعدنية، والمملكة النباتية، والمملكة الحيوانية، والمعدني لن يرتقي ليدخل الممكلة النباتية، لكن النباتي ينحدر إلى المعدني ليستمد منه غذاءه كنبات.. والنباتي بدوره أيضاً لن يتعدى حدود مملكته إلى المملكة الحيوانية، ولكن الحيواني يتنازل فيجعل مما دونه طعاماً له فيصبح النباتي عندئذ جزءاً من نظام أعلى منه، هكذا الإنسان يقف متحيراً عاجزاً عن اكتشاف أسرار عالم الروح، إلا إذا نزل «الروحاني فأظهر نفسه للإنسان» وهذا تماماً ما فعله الله حينما تنازل وأظهر نفسه في شخص يسوع المسيح» .
وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس عن حقيقة تجسد الله في شخص المسيح الكريم.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١ و١٤ و١٨).
وفي ذات الإنجيل يقول فيلبس للمسيح: «يا سيد أرنا الآب وكفانا» فيرد عليه قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو ١٤: ٨ - ١٠).
ويكتب بولس الرسول إلى القديسين في كورنثوس قائلاً: «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ » (٢ كو ٤: ٥ و٦).
ومرة ثانية يكتب لهم: «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢ كو ٥: ١٩).
إننا لا نستطيع أن نرى الله في وجه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، ولا نستطيع أن نرى الله في وجه موسى أو إشعياء.
لكننا نستطيع أن نرى الله في «وجه يسوع المسيح» كما قال بفمه المبارك «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
منذ القديم سأل البشر: من هو الله؟
سألوا: هو هو إله قدوس؟
وجاء المسيح إلى أرضنا فرأينا في شخصه القدوس أن الله «قدوس» كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦).
سألوا: هل الله قادر على كل شيء؟ هل يمكنه أن ينتصر على الطبيعة؟ والمرض؟ وأن يهزم الموت؟ وأن يحطم قوات الظلام؟
ورأينا المسيح يسكت البحر، ويشفي الأبرص، ويقيم لعازر من القبر، ويحرر الناس من سلطان الشيطان.
سألوا: هل يحب الله بني الإنسان؟
وجاء المسيح ليعلن لنا حب الله لبني الإنسان قائلاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو ٣: ١٧ و١٨).
وهكذا رأينا الله في كل صفاته وسجاياه معلناً ذاته في شخص ابنه يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١).
وهنا لا بد أن نقول أن هناك فرقاً كبيراً بين الإيمان بأن المسيح هو «الله» والإيمان بأن المسيح «شخص إلهي»، فالفرق بين «لاهوت المسيح Deity» وبين «إلهية المسيح Divinity» فرق كبير، فقد يكون المرء إلهياً دون أن يكون إلهاً. وسنوضح هذا حين نشرح الآيات الخاصة بلاهوت المسيح، لكننا هنا نكتفي بضرورة العناية باختيار ألفاظنا في الحديث عن المسيح في عالم امتلأ بالأفكار العصرية عن شخصه الكريم فالعصريون يؤمنون «بإلهية المسيح» بمعنى أنه «شخص إلهي» ولكنهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح بمعنى أنه «الابن» الذي ظهر في الجسد.
لقد سمى المسيح باسم «الكلمة Logos» والحديث عن هذا الاسم يحتاج إلى مجلدات لكننا نكتفي هنا بالقول بأن هذا الاسم «الكلمة» يعني:
(١) القوة الخالقة «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ» (مز ٣٣: ٦) «وَقَالَ ٱللّٰهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ» (تك ١: ٣) ويعني (٢) «الفكر أو العقل الإلهي» ويعني (٣) القوة الحافظة والحاملة لهذا الوجود (عب ١: ٣) ويعني (٤) التعبير المفهوم عن الله لذهن الإنسان.
سأل شاب مستر جرينفيلد هذا السؤال: هل تقدر أن تفسر لي: لماذا سمي يسوع المسيح «الكلمة»؟
أجاب مستر جرينفيلد: «أعتقد أن الكلام واسطة التفاهم بين البشر، والمسيح هو «الكلمة» لأنه واسطة التفاهم بين الله والناس» (١ تي ٢: ٥).
هنا قد يعترض أحدهم بالقول: كيف تتصور أن يرضى الله بأن يتجسد في صورة الإنسان، وأن يسمح للناس أن يلطموه على وجهه، ويبصقوا عليه، ويجلدوه، ويصلبوه على صليب؟
وأقول: إن الله قد سمح للناس أن يفعلوا به كل هذا، ليظهر لهم مدى عمق الشر في قلوبهم.. هل يمكنك أن تتصور إنساناً يجول محسناً على الفقراء، شافياً المرضى، ماسحاً للدموع من عيون الحزانى، فاعلاً كل ما هو جليل وجميل. ثم يجتمع عليه الناس فيضربوه ويقتلونه.. بأي حكم تحكم على هؤلاء الناس، وأي تصور تراه للشر الأسود الجاثم في قلوبهم؟!!
هكذا جاء المسيح يطعم الجياع، ويشفي المرضى، ويقيم الموتى، فاختار الناس الحرية والحياة للص اسمه «باراباس» وقادوا المسيح إلى الموت على الصليب، وهكذا أظهر الله مدى ما فعلته الخطية بالناس إذ عضوا اليد التي أطعمتهم، وضربوا الفم الذي حدثهم بالخير والحق والجمال، وقتلوا ذاك الذي وهبهم الصحة والبركة والحياة.
لكن أحدهم قد يصيح قائلاً: كلا ما قتلوه! لقد قتلوا شخصاً شبيهاً به..: قتلوا يهوذا تلميذه الخائن الذي ألقى عليه الله شبه المسيح أما المسيح فقد نجا من موت الصليب.