بالرغم من اعتراض الإسلام على العقائد المسيحيّة الأساسيّة فإنّ القرآن يضفي على المسيح صفات وكرامات، تجعله فوق مستوى البشر. وهذه الميّزات تنبع من سيرته، ومن رسالته ومن شخصيّته. وحين نقارن بين هذه الميزات والميزات التي ذكرها القرآن للأنبياء والرسل، نرى أنّه لا يعطي أحداً منهم حتّى محمّداً شيئاً من ميّزات المسيح:
١ - الحَبَل العجيب. كما نقرأ في سورة التحريم «وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ»(التحريم ٦٦: ١٢، الأنبياء ٢١: ٩١).
قال الفخر الرازيّ: نفخنا فيه من روحنا، أي في عيسى.. لأنّ عيسى كان في بطنها. واختلفوا في النافخ. قال بعضهم: كان النفخ من الله، لقوله فنفخنا فيه من روحنا. وظاهره أنّ النافخ هو الله تعالى. وقال آخرون النافخ هو جبريل. لأنّ الظاهر من قول جبريل «لأهب لكِ».
ثمّ اختلفوا في كيفيّة النفخ: (١) قول وهب إنّ جبريل نفخ في جيبها حتّى وصل الرحم. (٢) في ذيلها فوصلت إلى الفرج. (٣) قول السديّ: أخذ بكمّها فنفخ في جنب درعها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت. فجاءتها أختها امرأة زكريّا، فالتزمتها. فلمّا التزمتها علمت أنّها حبلى، وذكرت مريم حالها. فقالت امرأة زكريّا، إنّي وجدتُ ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله «مصدّقاً بكلمة من الله». (٤) إنّ النفخة كانت في فمها، ووصلت إلى بطنها فحملت في الحال.
وعن ابن عبّاس أنّه قال: نفخ جبريل في جوف الدرع ومدّه بإصبعه ونفخ فيه، وكلّ ما في الدرع من خرق ونحوه، فإنّه يقع عليه اسم الفرج.
وقيل «أحصنتْ»تكلّفت في عفّتها والمحصّنة العفيفة «ونفخنا فيه مِن روحنا»أي فرج ثوبها. وقيل خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان. وقال مقاتل في شرح «وصدّقت بكلمات ربّها»يعني بعيسى. ويدلّ عليه قراءة الحسن بكلمة ربّها. وسُمّي عيسى كلمة الله في عدّة مواضع من القرآن.
٢ - الولادة العجيبة. يذكر لنا القرآن هذا الحوار بين مريم العذراء وملاك الربّ حين جاء ليبشّرها، قال: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً» (مريم ١٩: ١٩-٢١).
وقد علّق البيضاويّ على ولادة يسوع المعجزيّة بقوله: تلك ميّزة تفرّد بها المسيح على العالمين والمرسَلين. لأنّه وُلِد دون أن تضمّه الأصلاب والأرحام الطوامس.
أمّا الفخر الرازيّ، فعلّق على الموضوع هكذا:
(١) العبارة «لأهب لك غلاماً زكيّاً»قال: الزكيّ يفيد أموراً ثلاثة: (الأّول) أنّه الطاهر من الذنوب. (الثاني) أنّه ينمو على التزكية، لأنّه يُقال في مَن لا ذنب له زكيّ، وفي الزرع النامي زكيّ، (الثالث) النزاهة والطهارة.
(٢) العبارة «ولنجعله آية للناس ورحمة»أي لنجعل خلقه آية للناس إذ وُلِد من غير ذكر. ورحمة منّا أي يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات، حتّى تكون دلائل صدقه أبهر، فيكون قبول قوله أقرب.
وقال الإمام أبو جعفر الطبريّ في تفسير «غلاماً زكيّاً»وذلك بالاستناد إلى قول أبي عمرو «الغلام الزكيّ هو الطاهر من الذنوب». وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعالٍ وعليّ.
٣ - كونه مباركاً - نقرأ في سورة مريم هذه العبارات عن لسان المسيح: «وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ» (مريم ١٩: ٣١).
قال الطبريّ عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان، إن تفسير «جعلني مباركاً»هو جعلني معلّماً للخير.
وعن سليمان بن عبد الجبّار، عن محمد بن يزيد بن خنيس المخزوميّ، قال: سمعت ابن الورديّ مولى بني مخزوم، قال: لقي عالم لما هو فوقه من العلم. فقال له: يرحمك الله، ما الذي أُعلِن من علمي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده. وقد أجمع الفقهاء على قول الله «وجعلني مباركاً أينما كنتُ».
٤ - كونه مؤيَّداً بالروح القدس - «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ» (سورة البقرة ٢: ٢٥٣).
قال أبن عبّاس: إنّ روح القدس، هو الاسم الذي كان يُحيي به عيسى الموتى. وقال أبو مسلم: إنّ روح القدس الذي يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممّن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.
«ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَٱمِنُوا بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ» (سورة النساء ٤: ١٧١).
وخلاصة هذه الآيات، أنّ الله أعطى عيسى في ذاته روحاً، وأنّ هذا الروح يؤيّده في شخصيّته. ومع ذلك فقد اختلف علماء الإسلام في تفسير الروح القدس الذي تأيّد المسيح به:
قال ابن أنس: «هو الروح الذي نفخ في المسيح، أضافه الله إلى نفسه تكريماً وتخصيصاً. والقدس هو الله، يدلّ عليه قوله فنفخنا فيه من روحنا».
وقال السديّ وكعب: «روح القدس هو جبريل. وتأييد عيسى بجبريل هو أنّه كان قرينه ورفيقه، يعينه ويسير معه حيثما سار، إلى أن صعد به إلى السماء».
وقال ابن جبير: «روح القدس هو اسم الله الأعظم، وبه كان عيسى يحيي الموتى».
وقال القاشانيّ: «الله خاصة طهّر جسم عيسى عن الأقذار الطبيعيّة، فهو روح متجسّد في بدن مثاليّ روحانيّ. وذلك من صفاء جوهر طينته ولطافتها وصفاء طينة أمّه وطهارتها. ونزَّه روحه وقدّسه من التأثّر بالهيئات الطبيعيّة والصفات المدنيّة، لتأييده بروح القدس الذي هو على صورته».
وقال ابن عطا: «إنّ أحسن النبات ما كان ثمرته مثل عيسى روح الله».
وقال ابن عبّاس: «إنّه الروح الذي نفخ فيه، والقدس هو الله فهو إذاً روح الله».
٥ - رفعته عند وفاته - إذ نقرأ في سورة آل عمران «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا..» (آل عمران ٣: ٥٥).
قال الفخر الرازيّ: لتفسير هذه الآية عدّة وجوه منها:
الوجه الأوّل: المراد (بالرفعة إنّي رافعك) إلى محلّ كرامتي. وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم. ومثلها قوله: إنّي ذاهب إلى ربّي (هذه العبارة مستعارة من الإنجيل).
الوجه الثاني: في التأويل أن يكون قوله «ورافعك إليّ»معناه أنّه يرفعه إلى مكان لا يملك أحد الحكم عليه فيه. لأنّ في الأرض قد يتولّى الخلق أنواع الأحكام، أمّا في السموات فلا حاكم في الحقيقة وفي الظاهر إلاّ الله.
٦ - عصمته في رسالته كما في سيرته - يتوهّم البعض أنّ العصمة في الرسالة تقترن حتماً بالعصمة في السيرة ولكنّ نصوص القرآن تنقض هذا الوهم. إذ نقرأ في سوره الكثير من النصوص التي تفيد أنّ حياة الأنبياء لم تكن بلا لوم، لا قبل الرسالة ولا بعدها. أمّا المسيح في القرآن فسيرته معصومة كرسالته. فقد شهد الملاك بذلك إذ قال لأمّه: «أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكيّاً». وقد قال البيضاويّ في تفسير كلمة زكيّ إنّ عيسى كان مترقّياً من سنّ إلى سنّ.
٧ - تَفرُّد رسالته بالمعجزات - فكما انفردت رسالته على الرسالات جميعاً بتأييد الروح القدس، انفردت أيضاً بالمعجزات وباستجماعها، كما لم تجتمع لغيره. إذ نقرأ في سورة البقرة ٢: ٢٥٣ «وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ»والبينات هي العجائب.
قال البيضاويّ: لقد خصّه الله بالتعيين وجعل معجزاته سبب تفضيله على الرسل. لأنّها آيات واضحة، ومعجزات عظيمة، لم يستجمعها غيره.
٨ - علمه بالغيب - جاء في سورة الزخرف ٤٣: ٥٧ و٦١ «وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ... وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ».
قال الجلالان في تفسير «لعلم للساعة»إنّه عيسى لعلم الساعة يعلم بنزولها. ومتى ذكرنا أنّ المعروف عند الناس أن الله ينفرد عن خلقه بأنه وحده عنده علم الساعة، ندرك الميزة التي أفردها القرآن للمسيح.
٩ - إنّه الشفيع المقرَّب - جاء في سورة الزمر ٣٩: ٤٤ نرى أنّ القرآن يحصر الشفاعة لله وحده، إذ يقول «لِلَّهِ ٱلشَّفَاعَةُ جَمِيعاً». ومع ذلك، فأحد نصوص القرآن يلمّح إلى كون الشفاعة أيضاً من امتيازات المسيح إذ يقول: «إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ»(سورة آل عمران ٣: ٤٥).
قال الجلالان في تفسير هذه الآية: وجيهاً في الدنيا بالنبوّة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلى، ومن المقرّبين عند الله.
وأخرج الطبريّ عن ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق، عن محمّد بن جعفر، قال: «وجيهاً في الدنيا»أي ذو وجه ومنزلة عند الله، وفي الآخرة ومن المقرَّبين يعني أنّه ممَّن يقرّبه الله يوم القيامة فيسكنه في جواره ويدنيه منه.
وقال الرازيّ «وجيهاً في الدنيا»بسبب أنّه يُستجاب دعاؤه، ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ووجيه في الآخرة أنّه يجعله شفيع أمّته.
أمّا قوله «ومن المقرَّبين»ففيه وجوه:
الأّول أنّه تعالى جعل ذلك بالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم في هذه الصفة.
الثاني، إنّ هذا الوصف كالتنبيه على أنّه سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة.
الثالث، إنّه ليس كلّ وجيه في الآخرة يكون مقرّباً. لأنّ أهل الجنّة على مراتب ودرجات.