(٣ ) السبب الثالث لحتمية الإيمان بأن المسيح هو الله، هو حتمية إعلان الله عن ذاته للإنسان: من أول مبادئ علم اللاهوت، إن فكرة الإنسان عن الإله الذي يعبده تطبع أثرها العميق في حياته العملية، لأن الناس يتمثلون في حياتهم اليومية بالإله الذي يعبدونه كما قال كاتب المزمور في الكلمات: «لِمَاذَا يَقُولُ ٱلأُمَمُ: «أَيْنَ هُوَ إِلٰهُهُمْ؟» إِنَّ إِلٰهَنَا فِي ٱلسَّمَاءِ. كُلَّمَا شَاءَ صَنَعَ. أَصْنَامُهُمْ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي ٱلنَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. لَهَا مَنَاخِرُ وَلاَ تَشُمُّ. لَهَا أَيْدٍ وَلاَ تَلْمِسُ. لَهَا أَرْجُلٌ وَلاَ تَمْشِي، وَلاَ تَنْطِقُ بِحَنَاجِرِهَا. مِثْلَهَا يَكُونُ صَانِعُوهَا، بَلْ كُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا» (مز ١١٥: ٢ - ٨).
لذا فمنذ البدء تاق الإنسان أن يرى الله وتجسد شوقه في كلمات قديسي القدم، فقال أيوب: «مَنْ يُعْطِينِي أَنْ أَجِدَهُ فَآتِيَ إِلَى كُرْسِيِّهِ!» (أي ٢٣: ٣) وقال موسى: «أَرِنِي مَجْدَكَ» (خر ٣٣: ١٨) وقال إشعياء: «لَيْتَكَ تَشُقُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ» (إش ٦٤: ١) وقال فيلبس: «أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا» (يو ١٤: ٨).
وشوق الإنسان لرؤية الله ليس أمراً غريباً، فلقد خلق الله الإنسان على صورته، وقبل أن يسقط الإنسان في الخطية كانت له علاقة مباشرة مع الله، فلقد كان الله يأتي إليه في الجنة، ويبدو أن الإنسان في برارته قد رأى الله، فلما سقط أثرت الخطية في ذهنه، وتشوهت الصورة الحقيقية التي كانت في فكره عن الله، فكان لا بد أن يعمل الله شيئاً ليعيد صورته الصحيحة إلى ذهن الإنسان، وقديماً عبر المرنم العبري عن شوقه إلى الله بالكلمات: «كَمَا يَشْتَاقُ ٱلإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ ٱلْمِيَاهِ هٰكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا ٱللّٰهُ» (مز ٤٢: ١).
وقد يقول قائل: إننا نستطيع أن نرى الله في الطبيعة التي خلقها ويقيناً أن «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز ١٩: ١) لكن قدرة الله الظاهرة في الطبيعة تشعر الإنسان بتفاهته، بل تشعره ببعد الله عنه وعدم اهتمامه به كما عبر دواد عن ذلك بالكلمات «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَّوَنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ!» (مز ٨: ٣ و٤).
إذاً فقد كان من المحتم أن يتجسد الله ليعلن للإنسان أنه قريب منه، ويظهر له عنايته به، ويؤكد له اهتمامه بدقائق حياته، ويشبع في ذات الوقت أشواق قلبه.
وتجسد الله كان دائماً هو رجاء الإنسان، فالوثنيون آمنوا بإمكان تجسد الله فقالوا عن بولس وبرنابا: «إِنَّ ٱلآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِٱلنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» (أع ١٤: ١١).
واليهود آمنوا بإمكانية ظهور الله في الجسد فنحن نقرأ في سفر التكوين عن ظهور الرب لإبراهيم في الكلمات: «وَظَهَرَ لَهُ ٱلرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ ٱلْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ ٱلنَّهَارِ» (تك ١٨: ١).
وكذلك نقرأ عن ظهور الله لمنوح وامرأته في صورة رجل في الكلمات: «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ» وبعد أن صعد الرجل في لهيب المذبح إلى السماء، أدرك منوح أن ذلك الرجل كان هو الله ظاهراً في صورة رجل فقال لامرأته «نمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ» (قض ١٣: ١٠ و٢٢).
وقد كتب الدكتور «أحمد زكي» في عدد ديسمبر سنة ١٩٥٦ من مجلة الهلال في مقال بعنوان «الله والناس» هذه الكلمات:
«إن العامة تستجيب للأشياء بمقدار ما تحسها، وغير المحسوس أقل في وعيهم درجة، ولو ملأ السماء والأرض.
وفي سبيل إيضاح المبهم، وتجسيد ما لا يتجسد، نسبت الأديان جميعاً إلى الله ما يأتلف والتجسيد، تقريباً لمعنى الله من أفهام العامة، والعامة بعد هم جمهور الناس في كل زمان، وإلى زماننا هذا.
وأعطى القرآن لله يداً:
«إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (سورة الفتح ٤٨: ١٠).
وأعطى القرآن لله وجهاً:
«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ» (سورة الرحمن ٥٥: ٢٦ و٢٧).
وأعطى القرآن لله عيناً:
«قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُّوٌ لِي وَعَدُّوٌ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (سورة طه ٢٠: ٣٦ - ٣٩).
وما كان لله يد تأخذ وتعطي
وما كان لله وجه يبقى وقد فنيت الوجوه
وما كان لله عين ترى، ثم لا ترى
إنه التجسيد الذي لا بد منه» ا.ه
كانت الأم تعلم طفلها أن الله موجود في السماء، وذات يوم تطلع الصغير إلى السماء وبكى، فلما سألته أمه عن سر بكائه قال:
«أريد يا ماما أن يفتح الله السماء وينزل لكي أراه».
ولقد تجسد «الله» في المسيح لكي يعلن عن ذاته وصفاته للناس كما قال بولس «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (١ تي ٣: ١٦).
في كتاب ظهر سنة ١٩٦٦ تهجم أحدهم على عقيدة التجسد فقال: «لو كان المسيح إلهاً حقاً لكان ظهور الله في تلك الصورة البشرية داعية إلى التشويش على التفكير الإنساني في سبيل التعرف على الله إذ أن الله بظهوره في تلك الصورة المجسدة قد أعلن ذاته، وكشف للناس عن وجهه، وصار قريباً مدانياً لهم، بعد أن ظل دهوراً طويلة، محجباً عنهم، في بهائه وجلاله، لا تناله الأبصار ولا تحتويه العقول!
فهذا الإعلان - في الواقع - فوق أنه داعية لشرود العقل، وتشتت الفكر في ذات الله - هو إعلان يقلل من شأن الله، وينقص قدره ويذهب بالكثير من جلاله وعظمته، وما تتلقى النفوس من مشاعر الولاء والخضوع لله الكبير المتعال. حين تنظر إليه من وراء حجاب!
فالنفس البشرية طلعة، تتوقد اشواقها إلى المجهول، وتتحرك نزعاتها إلى عالم الغيب، فإذا انكشف لها المجهول، أو ظهر لها الغيب سكنت نزعاتها، وبردت أشواقها نحو هذا الشيء، الذي كانت تسعى إليه وتجد في البحث عنه!
«ولو ظهر الله للناس عياناً - على يقين استحالته - لسقطت هيبته من النفوس بعد حين، ولجاء اليوم الذي يصبح «الله» وهو يغدو ويروح بين الناس، كواحد من الناس!» ا.ه
وكلمات من هذا الطراز تصدق على البشر لكنها لا تصدق على الله، لان البشر تزداد هيبتهم حين يختفون وراء حجاب، وتسقط هيبتهم حين يندمجون بين الناس فتظهر عيوبهم وخطاياهم، أما الله جل وعلا فإن هيبته تزداد في أي صورة يظهر بها للناس ولذا فعندما جاء يهوذا التلميذ الخائن، والجند، والخدام من عند رؤساء الكهنة والفريسين بمشاعل ومصابيح وسلاح للقبض على المسيح نقرأ حينئذ الكلمات «فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى ٱلْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى ٱلأَرْضِ» (يو ١٨: ٤ - ٦).
فهل رأيت متهماً يذهب الجنود للقبض عليه، فيتراجعون أمام بهاء مجده، ويسقطون أمام جلاله على الأرض؟
لقد حدثنا التاريخ عن القبض على نابليون، وعن موت الدكتاتور الإيطالي «موسوليني» الذي داسه شعبه بالأقدام... فلم نر جنوداً في مركز القوة يسقطون أمام واحد منهما على الأرض... لكن المسيح له المجد، أسقط ببهائه ومجد لاهوته الجنود الذين جاؤوا للقبض عليه، لكي يعلن لنا أنه سلم ذاته للموت ليس عجزاً منه بل طوعاً واختياراً لفدائنا.
وحجة القائل أن تجسد الله يسقط هيبته، حجة باطلة، فالناس سوف يقضون أبديتهم مع الله وفي رحابه، يرونه ويتحدثون إليه ويزدادون خشوعاً قدامه وإجلالاً لشخصه تبارك اسمه.
إن الطبيعة تعلمنا أنه من الممكن للأعلى أن ينزل إلى الأدنى، بينما يستحيل على الأدنى أن يرتقي من ذاته إلى الأعلى. يقول «م. ه. فنلي» في كتابه «منطق الإيمان» : «إننا نقسم العالم حولنا إلى ممالك ثلاث: المملكة المعدنية، والمملكة النباتية، والمملكة الحيوانية، والمعدني لن يرتقي ليدخل الممكلة النباتية، لكن النباتي ينحدر إلى المعدني ليستمد منه غذاءه كنبات.. والنباتي بدوره أيضاً لن يتعدى حدود مملكته إلى المملكة الحيوانية، ولكن الحيواني يتنازل فيجعل مما دونه طعاماً له فيصبح النباتي عندئذ جزءاً من نظام أعلى منه، هكذا الإنسان يقف متحيراً عاجزاً عن اكتشاف أسرار عالم الروح، إلا إذا نزل «الروحاني فأظهر نفسه للإنسان» وهذا تماماً ما فعله الله حينما تنازل وأظهر نفسه في شخص يسوع المسيح» .
وهذا هو ما قاله الكتاب المقدس عن حقيقة تجسد الله في شخص المسيح الكريم.
ففي إنجيل يوحنا نقرأ: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً... اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يو ١: ١ و١٤ و١٨).
وفي ذات الإنجيل يقول فيلبس للمسيح: «يا سيد أرنا الآب وكفانا» فيرد عليه قائلاً: «يَا سَيِّدُ، أَرِنَا ٱلآبَ وَكَفَانَا». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هٰذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا ٱلآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ» (يو ١٤: ٨ - ١٠).
ويكتب بولس الرسول إلى القديسين في كورنثوس قائلاً: «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبّاً، وَلٰكِنْ بِأَنْفُسِنَا عَبِيداً لَكُمْ مِنْ أَجْلِ يَسُوعَ. لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ » (٢ كو ٤: ٥ و٦).
ومرة ثانية يكتب لهم: «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (٢ كو ٥: ١٩).
إننا لا نستطيع أن نرى الله في وجه الملاك ميخائيل أو الملاك جبرائيل، ولا نستطيع أن نرى الله في وجه موسى أو إشعياء.
لكننا نستطيع أن نرى الله في «وجه يسوع المسيح» كما قال بفمه المبارك «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يو ١٤: ٩).
منذ القديم سأل البشر: من هو الله؟
سألوا: هو هو إله قدوس؟
وجاء المسيح إلى أرضنا فرأينا في شخصه القدوس أن الله «قدوس» كما قال عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (عب ٧: ٢٦).
سألوا: هل الله قادر على كل شيء؟ هل يمكنه أن ينتصر على الطبيعة؟ والمرض؟ وأن يهزم الموت؟ وأن يحطم قوات الظلام؟
ورأينا المسيح يسكت البحر، ويشفي الأبرص، ويقيم لعازر من القبر، ويحرر الناس من سلطان الشيطان.
سألوا: هل يحب الله بني الإنسان؟
وجاء المسيح ليعلن لنا حب الله لبني الإنسان قائلاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يو ٣: ١٧ و١٨).
وهكذا رأينا الله في كل صفاته وسجاياه معلناً ذاته في شخص ابنه يسوع المسيح كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ» (عب ١: ١).
وهنا لا بد أن نقول أن هناك فرقاً كبيراً بين الإيمان بأن المسيح هو «الله» والإيمان بأن المسيح «شخص إلهي»، فالفرق بين «لاهوت المسيح Deity» وبين «إلهية المسيح Divinity» فرق كبير، فقد يكون المرء إلهياً دون أن يكون إلهاً. وسنوضح هذا حين نشرح الآيات الخاصة بلاهوت المسيح، لكننا هنا نكتفي بضرورة العناية باختيار ألفاظنا في الحديث عن المسيح في عالم امتلأ بالأفكار العصرية عن شخصه الكريم فالعصريون يؤمنون «بإلهية المسيح» بمعنى أنه «شخص إلهي» ولكنهم لا يؤمنون بلاهوت المسيح بمعنى أنه «الابن» الذي ظهر في الجسد.
لقد سمى المسيح باسم «الكلمة Logos» والحديث عن هذا الاسم يحتاج إلى مجلدات لكننا نكتفي هنا بالقول بأن هذا الاسم «الكلمة» يعني:
(١) القوة الخالقة «بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ صُنِعَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ» (مز ٣٣: ٦) «وَقَالَ ٱللّٰهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ» فَكَانَ نُورٌ» (تك ١: ٣) ويعني (٢) «الفكر أو العقل الإلهي» ويعني (٣) القوة الحافظة والحاملة لهذا الوجود (عب ١: ٣) ويعني (٤) التعبير المفهوم عن الله لذهن الإنسان.
سأل شاب مستر جرينفيلد هذا السؤال: هل تقدر أن تفسر لي: لماذا سمي يسوع المسيح «الكلمة»؟
أجاب مستر جرينفيلد: «أعتقد أن الكلام واسطة التفاهم بين البشر، والمسيح هو «الكلمة» لأنه واسطة التفاهم بين الله والناس» (١ تي ٢: ٥).
هنا قد يعترض أحدهم بالقول: كيف تتصور أن يرضى الله بأن يتجسد في صورة الإنسان، وأن يسمح للناس أن يلطموه على وجهه، ويبصقوا عليه، ويجلدوه، ويصلبوه على صليب؟
وأقول: إن الله قد سمح للناس أن يفعلوا به كل هذا، ليظهر لهم مدى عمق الشر في قلوبهم.. هل يمكنك أن تتصور إنساناً يجول محسناً على الفقراء، شافياً المرضى، ماسحاً للدموع من عيون الحزانى، فاعلاً كل ما هو جليل وجميل. ثم يجتمع عليه الناس فيضربوه ويقتلونه.. بأي حكم تحكم على هؤلاء الناس، وأي تصور تراه للشر الأسود الجاثم في قلوبهم؟!!
هكذا جاء المسيح يطعم الجياع، ويشفي المرضى، ويقيم الموتى، فاختار الناس الحرية والحياة للص اسمه «باراباس» وقادوا المسيح إلى الموت على الصليب، وهكذا أظهر الله مدى ما فعلته الخطية بالناس إذ عضوا اليد التي أطعمتهم، وضربوا الفم الذي حدثهم بالخير والحق والجمال، وقتلوا ذاك الذي وهبهم الصحة والبركة والحياة.
لكن أحدهم قد يصيح قائلاً: كلا ما قتلوه! لقد قتلوا شخصاً شبيهاً به..: قتلوا يهوذا تلميذه الخائن الذي ألقى عليه الله شبه المسيح أما المسيح فقد نجا من موت الصليب.
ونرد على هذا الادعاء مستعينين بأفكار «م.ه. فنلي» مع ما كتبناه في مجلة الأخبار السارة سنة ١٩٥٩ في هذا الموضوع فنقول:
(١) إنه من التجديف الصريح على الله أن نظن بأنه وهو الأمين المنزه عن الكذب قد خدع الناس، فغير شكل «يهوذا» إلى شكل المسيح، وبذلك غرر بملايين البشر على مدى القرون، الأمر الذي يقود الناس إلى الاعتقاد أن الله لن يعاقب الناس أيضاً على ما اقترفوه من خداع فقد سبقهم - حاشا جل شأنه - في عمل أكبر خدعة في التاريخ هي خدعة تغيير شكل يهوذا إلى شكل المسيح.
(٢) لا يستسيغ العقل أن يقبل بأن أتباع المسيح وحوارييه قد رضوا بالموت في سبيله من أجل خدعة لا أصل لها في حقيقة الإيمان المسيحي، إذ أنهم كانون يموتون بالملايين ورجاءهم الوحيد هو إعلانهم الجهري بأن المسيح مات لأجلهم على الصليب.
(٣) من المستحيل أن يكون الشخص الذي صُلب على الصليب شخصاً غير المسيح، فالأقوال السبعة التي نطق بها المصلوب تؤكد حقيقة شخصيته، ولا يعقل أن ينادي يهوذا الخائن الأثيم الله القدوس العظيم قائلا: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو ٢٣: ٣٤) فالتاريخ يسجل عن الذين ماتوا موت الصليب أنهم سمموا الهواء النقي بشتائمهم القذرة، وتجديفهم الشنيع، أما ذاك المصلوب فقد رددت الأرجاء صدى انتصاره الساحق في معركة الصليب حين قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو ١٩: ٣٠)
وفي اللغة اليونانية الأصلية تتألف هذه العبارة من كلمة واحدة هي «تتلستي» وكانت كلمة شائعة الاستعمال في الحياة التجارية فعند تسديد «كمبيالة» لاستحقاق دفعها كان المستفيد يكتب على وجهها كلمة «تتلستي» التي تعني «سددت، انتهت، كملت، ألغيت» إذن فلم تكن صرخة المسيح وهو يصارع الموت اشتغاثة يائس تثير الشجن. استسلم بعدها إلى «إغماء» طويل كما يدعي العصريون بل بالحري كانت هتاف منتصر سدد مطاليب عدل الله ومحى صك الخطايا عن كل من يقبلوه، وإذن فلم يكن المصلوب يهوذا بل كان المسيح الفادي الكريم.
(٤) إن العهد القديم سبق فأنبأ عن تسليم يهوذا للمسيح وعن مصيره الأبدي فقال: «فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيراً، وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ... َوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ... أَحَبَّ ٱللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِٱلْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ» (مز ١٠٩: ٦ - ٢٠ اقرأ أعمال ١: ١٦ - ٢٠). وقال في موضع آخر، أيضاً: «رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مز ٤١: ٩) وقد تحدث المسيح عن يهوذا قبل أن يسلمه بقليل فقال: «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت ٢٦: ٢٤).
(٥) حضرت «مريم أم يسوع» ساعة الصلب وجاز في نفسها سيف الألم كما أنبأها «سمعان الشيخ» (لو ٢: ٢٥) فلو كان «يهوذا» هو الذي صُلب وشبه لليهود أنه المسيح إذن لأحس «قلب الأم» بهذه الحقيقة ولذهبت لتوها تخبر التلاميذ أن الذي على الصليب ليس هو ابنها يسوع المسيح.
(٦) كان صلب المسيح موضوع النبوات، وقد تمت النبوات فيه فمن المستحيل أن يكون الذي صُلب هو يهوذا، فيهوذا لم يمت مصلوباً لكننا نقرأ عنه الكلمات: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ... ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ» (مت ٢٧: ٣ و٥) فكيف يكون يهوذا قد مات مصلوباً، ومات مخنوقاً في ذات الوقت!؟
(٧) تؤكد الظواهر التي حدثت في الطبيعة وقت صلب المسيح، بأن المصلوب لا يمكن أن يكون يهوذا، بل لم يكن مجرد إنسان لأنها ظواهر خارقة لم تحدث قط عند صلب إنسان، وقد سجلها متى بالكلمات: «وَمِنَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَوْمٌ مِنَ ٱلْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا. وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ فَقَالُوا: ٱتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ. فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلّزَلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (مت ٢٧: ٤٥ - ٥٤).
فهذه الظواهر الخارقة.. زلزلة الأرض.. تشقق الصخور.. شق حجاب الهيكل. لا يمكن أن تكون قد حدثت مصادفة، ولا يمكن أن تحدث عند موت إنسان مجرم أثيم كيهوذا.. وعلى هذا نؤكد بيقين بأن المصلوب كان المسيح «ابن الله».
(٨) تؤكد ظهورات المسيح بعد القيامة أنه هو الذي صلب، إذ عندما شك توما في قيامته وقال للتلاميذ رفقائه: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو ٢٠: ٢٥)
جاء يسوع: «ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو ٢٠: ٢٧ - ٢٩).
ومع ظهور المسيح لتوما ولآخرين، ظهر كذلك «لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ» (١ كو ١٥: ٦) مما يؤكد بما لا يعطي مجالاً للشك قيامته المجيدة.
هكذا يظهر لنا بيقين أن الذي صلب على الصليب لم يكن يهوذا الاسخريوطي التلميذ الخائن، الذي خنق نفسه على غصن شجرة فثقل جسمه عليه وسقط فانسكبت أحشاؤه كلها (أعمال ١: ١٨). ولم يكن أي شخص آخر ألقى الله عليه شبه المسيح بل أن الذي صلب حقاً ويقيناً كان هو المسيح، «ابن الله» الإعلان الكامل الذي أعلن فيه ذاته وحبه وقدرته للإنسان. وهكذا يتحتم علينا الإيمان بأن المسيح هو الله.