أما الشريعة التي رضيت بموت المسيح، فهي شريعة حب الله للناس الخطاة، وشريعة الحب فوق كل قانون بشري: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٦). «فَإِنَّهُ بِٱلْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ ٱلصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو ٥: ٧ و٨).
ونصل الآن إلى الجزء الثاني من أسئلة مؤلف كتاب «كيف ولماذا؟» وفيه يقول: ما موقف البشر منذ أيام آدم إلى عهد المسيح؟ هل كانوا في عذاب إلى أن افتداهم بنفسه؟ وما موقف البشر بعد المسيح؟.. وإلى أن تقوم الساعة.. هل يشملهم فداءه؟
ونجيب قائلين: «إن جميع الذين غفر الله خطاياهم منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوا هذا الغفران بدم المسيح الكريم، تماماً كالذين نالوا الغفران بعد موت المسيح، والذين سوف ينالونه حتى تقوم الساعة. ذلك أنه من البديهيات الأولية أنه لا يوجد عند الله ماضي، وحاضر ومستقبل في حساب الزمن، فالمستقبل كاللوح المفتوح معروف ومكشوف لعيني الله العارف بكل شيء كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذٰلِكَ ٱلَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عب ٤: ١٣) وكما قال داود النبي: «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ... لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا لأَنَّكَ أَنْتَ ٱقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي... لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي حِينَمَا صُنِعْتُ فِي ٱلْخَفَاءِ وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ ٱلأَرْضِ. رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَّوَرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا» (مز ١٣٩: ١ و٢ و٤ و١٣ - ١٦) وتؤكد هذه الكلمات أن الله يعرف تفاصيل حياة كل إنسان قبل أن يولد ذلك الإنسان كما قال الله لإرميا النبي: «قَبْلَمَا صَّوَرْتُكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ» (إر ١: ٥).
وبهذه المعرفة السابقة وضع الله خطايا البشر على يسوع المسيح لكي يتمتع بفدائه الذين يؤمنون بهذا الفداء كما قال إشعياء النبي: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إش ٥٣: ٦).
ذكر الدكتور «توم مالون» راعي كنيسة عمانوئيل المعمدانية ببونتياك - بأمريكا هذه القصة قال: «حضرت سيدة إلى غرفة الصلاة ذات ليلة، وكانت مشكلتها بخصوص الغفران.. إنها لم تكن متيقنة من نوالها الخلاص. قالت: دكتور مالون.. هذا ما يزعجني.. إنني أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يغفر لي الرب خطاياي التي فعلتها في الماضي، وقد تقدمت الليلة لقبول المسيح ونوال الخلاص. ولكني أعلم أنني ما زلت أعيش في عالم الخطية، وأعيش مع زوج غير مخلّص، وأشتغل في عالم أناس غير مخلصين، فما الذي سأفعله بخطاياي التي سأعملها مستقبلاً»؟ هكذا عبرت عن المشكلة التي تقلق الكثيرين.. ماذا عن الخطايا التي أرتكبها بعد؟ كيف أحصل على غفران هذه الخطايا؟ قلت لها: «عندما مات المسيح منذ حوالي ألفي سنة كانت كل خطاياك مستقبلة، أعني خطاياك التي سقطت فيها في الماضي كانت مستقبلة، ولم تكوني قد سقطت فيها بعد لأنك لم تكوني قد أتيت إلى العالم بعد.. وعندما مات المسيح على صليب الجلجثة مات لأجل خطايا القائمتين «خطايا الماضي» و «خطايا المستقبل» وهكذا فإن غفران الله «كامل وتام».
إن المؤمن المتجدد الذي فعل خطية عليه أن يبادر بالاعتراف بها أمام الله وإلا فقد شركته معه «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (١ يو ١: ٩).
والآن لماذا تقول هذه الآية: إن الله «أمين وعادل» بدلاً من أن تقول «إن اعترفنا بخطايانا فهو رحيم ورؤوف حتى يغفر لنا خطايانا»؟ إن السبب هو أن المسيح عندما مات على الصليب، حمل كل خطاياي الحاضرة والمستقبلة ذلك لأن خطاياي كلها كانت مستقبلة حين مات المسيح... وعندما أعترف لله بخطاياي، فلكي يكون الآب أميناً مع ابنه الذي سدد مطاليب العدل الإلهي بموته على الصليب لا بد أن يغفر لي كل ما أعترف به من خطايا. إن هذه الآية خاصة بالمؤمن الذي أخطأ ضد الله بعد أن نال الخلاص.
الآن لكي نؤكد أن جميع الذين نالوا الغفران وخلصوا منذ آدم إلى عهد المسيح، نالوه بدم المسيح الكريم، يجب أن نعود إلى القصة من البداية، فعندما سقط آدم وحواء كساهما الله بجلد حيوان بريء ذبحه ليأخذ جلده لسترهما كما تقول الكلمات «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تك ٣: ٢١) وبهذه الكيفية أعلن الله للإنسان منذ سقوطه أن الوسيلة الوحيد لخلاصه وستر عريه هي «دم البديل» وبهذا عرف «آدم» أن الدم وحده هو الطريق الوحيد للستر، وأنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ!» (عب ٩: ٢٢).
وقبل أن يطرد الله آدم وامرأته من جنة عدن أسمعهما حديثه إلى الحية وكان يحمل في كلماته الوعد بمجيء المخلص المجيد، فقال للحية: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ ٱلْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تك ٣: ١٥). وهكذا خرج آدم وامرأته من الجنة بعد أن تأكدا أن الفداء والخلاص «بالدم» وأن ذلك الدم هو «دم المخلص الموعود» الذي سيولد بطريقة معجزية لا كما يولد سائر البشر بل يولد من عذراء لم يمسسها بشر، ولذا يُسمى نسل المرأة، وقد تم وعد الله في شخص المسيح كما قال بولس الرسول «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلا ٤: ٤ و٥).
ويعلن لنا الكتاب المقدس أن «آدم» قد لقن مبدأ «الفداء بالدم» لذريته، وأكد لهم «مجيء الفادي الكريم» معلناً لهم أن «أجرة الخطية هي موت» وأنه لا يمكن لإنسان أن يخلص من هذا الموت بالصوم، أو الصلاة، أو تعذيب النفس بالحرمان، أو الإحسان إلى إنسان مسكين، لان طريق الخلاص الوحيد هو «الفداء بالدم» دم طاهر كريم يفدي دم الإنسان الملوث بجراثيم الخطية والإثم.
ويرينا العهد القديم أن مبدأ الفداء «بالبديل» هو مبدأ إلهي، فبعد أن وُلد اسحق لإبراهيم بطريقة معجزية، إذ ولدته أمه بعد أن انتهى كل رجاء بشري في أن تلد كما نقرأ في الكلمات: «بِٱلإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضاً أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ ٱلسِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ ٱلَّذِي وَعَدَ صَادِقاً» (عب ١١: ١١)، طلب الله من إبراهيم أن يقدم إسحق ابنه محرقة له، معتبراً إياه الابن الوحيد لإبراهيم باعتباره الابن الذي كان في قصد الله أن يعطيه له من سارة امرأته حسب إرادته الصالحة، فقال له «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تك ٢٢: ٢) وكان هذا الطلب الإلهي لامتحان إبراهيم.. وقد نجح إبراهيم في الامتحان عن طريق «الإيمان» كما نقرأ «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُجَرَّبٌ - قَدَّمَ ٱلَّذِي قَبِلَ ٱلْمَوَاعِيدَ، وَحِيدَهُ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ» (عب ١١: ١٧ و١٨).
ولما وضع إبراهيم اسحق على المذبح، وأخذ السكين ليذبحه، ناداه ملاك الرب من السماء وقال «لا تمد يدك إلى الغلام.. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني».
وهنا تسترعي انتباهنا في المشهد هذه الكلمات: «فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تك ٢٢: ١٣).
ونرى في هذه الكلمات أن «الكبش» جاء بتدبير إلهي، وأنه مات «عوضاً أو «بديلاً» عن «اسحق» ففداء المسيح للبشرية على الصليب هو تدبير الله العزيز الحكيم» إذ فوق الصليب مات المسيح بدافع حبه «عوضاً» عن الإنسان الخاطئ كما قال بولس الرسول: «ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا ٢: ٢٠)، وفي المسيح يمكننا أن نرى «الذبح العظيم» لأن أي حيوان يقدم فدية عن البشر لا يمكن أن يكون ذبحاً عظيماً.
لقد قدم الله مواعيده الصادقة بمجيء الفادي، وبالإيمان في مواعيد الله المؤكدة لمجيء الفادي خلص المؤمنون قبل عهد المسيح. أجل بهذا الإيمان خلص «هابيل» الابن الثاني لآدم، وتقبل الله قربانه الذي تقرب به إليه كما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين «بِٱلإِيمَانِ قَدَّمَ هَابِيلُ لِلّٰهِ ذَبِيحَةً أَفْضَلَ مِنْ قَايِينَ، فَبِهِ شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ، إِذْ شَهِدَ ٱللّٰهُ لِقَرَابِينِهِ» (عب ١١: ٤) وهكذا نقرأ في سفر التكوين «فَنَظَرَ ٱلرَّبُّ إِلَى هَابِيلَ وَقُرْبَانِهِ» (تك ٤: ٤).
لكن منذ مطلع الخليقة وقد حاول الإنسان أن يبتدع لنفسه ديناً من قلبه الأثيم، ومن وحي غروره، فظن أنه يستطيع أن يخلص من خطاياه بحسناته وأعمال يديه، وكان الرائد الأول للديانة الإنسانية هو «قايين» الذي لم يتقبل الله قربانه، وذلك لثلاثة أسباب:
أولها: إن طريقه لم يكن طريق الإيمان، فهو لم يصدق الله ولم يؤمن بمواعيده بمجيء المخلص. ثانياً: أنه أراد أن يرضي الله ويخلص من خطاياه بأعمال يديه، فقدم «مِنْ أَثْمَارِ ٱلأَرْضِ قُرْبَاناً لِلرَّبِّ» (تك ٤: ٣) ولكن الله رفض قربانه لأنه كان من عمل إنسان لوثته الخطية من باطن قدمه إلى هامته. وثالثها: أنه قدم قربانه من ثمار أرض لعنها الله بسبب خطية الإنسان (تك ٣: ١٧).
ويسجل سفر التكوين هذا الرفض الإلهي لقربان قايين بالكلمات: «وَلٰكِنْ إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ» (تك ٤: ٥).
لقد كانت ديانة «قايين» ديانة شيطانية، ورغم غطاء الأعمال الصالحة الذي أراد «قايين» أن يستر به نفسه العارية، فقد انكشف الغطاء عن نفس مجرمة، إذ قام على أخيه هابيل وذبحه، وعن هذا يقول يوحنا الرسول «لَيْسَ كَمَا كَانَ قَايِينُ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ» (١ يو ٣: ١٢).
وهكذا يتبين لنا في وضوح وجلاء أنه منذ عهد آدم كان الخلاص بالدم، وإذ نسير مع تدرج التاريخ نرى الله يرسل أنبياءه لشعبه العظيم لكي يذكروا هذا الشعب بمجيء الفادي الكريم، بل نراه يأمر شعبه القديم بتقديم مختلف الذبائح والقرابين، وكل ذبيحة ترمز إلى ناحية من نواحي عمل المسيح الذي أتمه بموته على الصليب (إقرأ الأصحاحات الأولى من سفر اللاويين.
وقد كان مقدم «القربان» أو «الذبيحة» يضع يده على رأس المحرقة، كأنه يعلن أن خطاياه قد انتقلت إليها، وكان الكاهن يذبح الذبيحة ليؤكد لمقدمها أن «أجرة الخطية هي موت»، ثم يضع الذبيحة بعد ذبحها فوق الحطب الذي على نار المذبح ليؤكد لمقدمها أن الخطية أنتجت الموت الجسدي، والطرح في جهنم النار في ذات الوقت كما نقرأ في سفر رؤيا يوحنا: «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤ ٢٠: ١٥) (اقرأ لاويين ١: ٤ - ٩).
وهكذا أعلن الله في كتابه الكريم أن المسيح سيولد من عذراء (إشعياء ٧: ١٤)، وأنه سيولد في مدينة بيت لحم (ميخا ٥: ٢) وأنه سيموت مثقوب اليدين والرجلين على الصليب (مزمور ٢٢: ١٦) وأنه سيُدفن في قبر رجل غني (إشعياء ٥٣: ٩)، وأن موته سيكون لحمل خطية كثيرين (إشعياء ٥٣: ٥ و٦ و١١ و١٢) وأنه سيقوم من بين الأموات بعد ثلاثة أيام (متى ١٢: ٤٠ و١٦: ٢١).
وبهذه النبوات رسم الكتاب المقدس منذ القديم صورة مضيئة للمسيح صانع الفداء العظيم. هذا المسيح الذي به دخل المؤمنون إلى مكان راحتهم فلم يذهبوا إلى العذاب كما ظن مؤلف ذلك الكتاب. هذا المسيح الذي جعله الله «آية» إذ وُلد من عذراء لم يمسسها بشر، و «رحمة منه» إذ بموته رحم الله البشر الآثمين، وإلا فأي رحمة جاء بها المسيح لو لم يكن قد مات من أجل خطايانا على الصليب؟
هذا يأتي بنا إلى آخر أسئلة مؤلف كتاب: «كيف ولماذا؟» وهو يقول في هذا السؤال: ثم كيف يقدم الله سبحانه وتعالى الفداء ليكون سبباً للمغفرة؟ أليس هو الذي يملك المغفرة وحده؟ فإن شاء غفر وإن شاء لا يغفر؟
ونجيب قائلين: إنه كان لا بد من الفداء للغفران، ليكون الله «باراً» و «يبرر» الذين يؤمنون! يقول دكتور توم مالون: «كيف يمكن لله أن يغفر خطايا الإنسان؟» لا بد أن يكون هناك أساساً للغفران.. إذا ارتكب صبي خطأ ما وأحضروه لأبيه، فإن الوالد الشرير الضعيف هو الذي يقول لابنه على غير أساس وبدون توقيع عقوبة عليه «حسناً يا ولدي، لا تفكر في هذا الأمر مرة ثانية، لقد سامحتك».
إن غفراناً من هذا الطراز لا بد أن يخرج للعالم جيلاً مستهتراً بكل مبادئ الأخلاق والقوانين.. لكننا الآن نقف أمام إله قدوس، قال عنه الكتاب المقدس: «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا ٱلشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ ٱلنَّظَرَ إِلَى ٱلْجَوْرِ» (حب ١: ١٣).
هنا الله القدوس... إله النور.. إله العدل.. الإله الكلي الطهارة وأمامه الإنسان الخاطئ، الفاسد، النجس، الضعيف. فكيف يمكن أن يتلاقى الله القدوس مع الإنسان النجس؟
أين الأساس الذي بموجبه يقول الله للإنسان: «مغفورة لك خطاياك»؟ كيف يكون الله «باراً» و «يبرر» في ذات الوقت الإنسان الشرير؟
دعني أصور لك الأمر، لنفرض أننا في قاعة المحكمة، وها هو مجرم جريمته القتل يقف في قفص الاتهام، وها هي هيئة المحكمة تدخل فيسود هدوء عجيب.. لكن أنظر ها هو القاضي يقول للمجرم الأثيم: «إننا نعلم أنك ارتكبت الجريمة، ولكننا سنغفر لك، هذه مشيئتنا ورغبتنا على غير أساس من القانون، فلا تعد تفكر في جريمتك على الإطلاق».
إن الحاضرين في المحكمة سيصرخون: أي قاضي مستهتر هذا القاضي الذي يغفر للقاتل على غير أساس للغفران؟ وأي مجتمع هذا الذي يفقد سطوة القانون؟
والآن ما هو الأساس الذي بموجبه يغفر الله خطايا الناس، وكلها أكبر من جريمة القتل لأنها موجهة ضد الله القدوس الخالق العظيم؟
هنا يشرح بولس الرسول بالروح القدس حكمة الله فيقول: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رو ٣: ٢١ - ٢٦).
أجل لقد غفر الله للإنسان على أساس موت المسيح على الصليب حسب غنى نعمته «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس ١: ٧) وأمام عظمة هذا العمل الفدائي الإلهي هتف بولس الرسول قائلاً: «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلاسْتِقْصَاءِ» (رو ١١: ٣٣).
«فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: سَأُبِيدُ حِكْمَةَ ٱلْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ ٱلْفُهَمَاءِ. أَيْنَ ٱلْحَكِيمُ؟ أَيْنَ ٱلْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ ٱللّٰهُ حِكْمَةَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ؟ لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كورنثوس ١: ١٨ - ٢٤).
أجل لقد ظهرت في فداء المسيح «قوة الله» المنتصرة على الشيطان (كولوسي ٢: ١٤ و١٥). وكما ظهرت «حكمة الله» التي على أساسها أعطي للإنسان الغفران.
فالذبائح الدموية في العهد القديم لم تكن سوى رمز للذبيح الأعظم، لكنها في ذاتها لا تستطيع البتة أن تنزع الخطية كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَاراً كَثِيرَةً تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ. وَأَمَّا هٰذَا (أي المسيح) فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (عب ١٠: ١١ و١٢).
وقديماً قال داود وهو يترجى رحمة الله: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مز ٥١: ١٦) وكذلك قال المزمور التاسع والاربعون «ٱلأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ٱلإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ ٱللّٰهَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِمْ، فَغَلِقَتْ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مز ٤٩: ٧ و٨)، وقال ميخا النبي أيضاً: «بِمَ أَتَقَدَّمُ إِلَى ٱلرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ٱلْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ٱلرَّبُّ بِأُلُوفِ ٱلْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرَةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟» (ميخا ٦: ٦ و٧).
ومن كل هذه الكلمات نرى أن الإنسان منذ القديم قد أدرك عجز الذبائح الحيوانية، وعجزه عن فداء نفسه إذ أن الحيوان مهما كانت فصيلته لا يمكن أن يعادل في قيمته الإنسان، كما أن الإنسان الخاطئ لا يقدر أن يفدي نفسه أو أن يفديه سواه من البشر الخطاة، ولذا تمنى الإنسان منذ القديم أن يجد المصالح الذي يصالحه مع الله، كما عبر أيوب وهو في عمق آلامه وبلواه قائلاً: «لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَاناً مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ فَنَأْتِي جَمِيعاً إِلَى ٱلْمُحَاكَمَةِ. لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أي ٩: ٣٢ و٣٣).
لقد تمنى أيوب أن يجد مصالحاً يضع يده على يده كإنسان، ويضع يده على يد الله كإله، أو في تعبير أدق تمنى أن يتجسد «الله» في صورة إنسان، لكي يصالحه مع نفسه.
وفي تجسد المسيح وموته على الصليب تمت المصالحة التي تمناها أيوب وهو يتكلم بلسان الإنسان الباحث عن الطريق إلى الله، كما قال بولس الرسول: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ ٱلْمَسِيحِ، كَأَنَّ ٱللّٰهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ ٱلْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢ كو ٥: ١٨ - ٢١). وكما قرر في رسالته إلى تيموثاوس قائلاً: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (١ تي ٢: ٥ و٦).
ويقول دكتور كامبل مورجان أستاذ الكتاب المقدس: إن الكلمة اليونانية (Antiulutron) المترجمة إلى «فدية» لا توجد في كل العهد الجديد إلا في هذه الآية، وفوق ذلك فإنها كلمة غير معروفة في اللغة اليونانية الكلاسيكية، ويبدو لي أحياناً أن الروح القدس قد قاد بولس لصياغة كلمة جديدة باستخدامه لهذه الكلمة.
وعند فحص الكلمة «فدية» نرى أنها تشير إلى عمل بواسطته رفعت الخطية التي فصلت بين الله والإنسان بل إلى عمل رفع الإنسان من منطقة الوجود العقلي إلى منطقة الوجود الروحي، وهذا يعني أن المسيح قد أعاد بفدائه إمكانية الشركة المباشرة بين الله والناس، يجد أن الشر الذي أعمى عينيه، وأفقده الاحساس السليم بالله، قد أُزيل، وأن التعامل المباشر بينه وبين الله أصبح اختباراً عملياً في حياته، فنوال بركات الفداء مشروط بالتوبة الحقيقية عن الخطية، والإيمان القلبي الشخصي بيسوع المسيح «تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ ٱلْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (أع ٢: ٣٨) وهذا الإيمان القلبي يحدث تغييراً حقيقياً في الحياة والاتجاهات كما قال بولس الرسول: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (٢ كو ٥: ١٧).
ففداء المسيح لا يشجع الخاطئ على الاستمرار في خطاياه بل على العكس يغير حياته، ويعطيه قلباً جديداً يتجه إلى الله.
وإذا قال مؤلف كتاب كيف ولماذا؟ إن الصلب كان عملاً همجياً ووحشياً، أجبناه: أجل لقد كان كذلك من جانب الإنسان، الإنسان الذي ظهر في قمة شره يوم اختار باراباس اللص للحرية، وطلب من بيلاطس أن يصلب يسوع المسيح القدوس، ولقد كان المسيح له المجد قادراً على حماية نفسه والتنحي عن الصليب، لكنه ارتضى أن يموت طوعاً نيابة عن البشر، ولأنه خالق البشر بل خالق كل الأشياء ففي قدرته إذاً أن يفدي خليقته لأنه يزيد عنها قيمة لو وضعت أمامه في كفة الميزان، لذا كان في دمه الكفاية للتكفير عن خطايا العالم كله كما قال عنه يوحنا الرسول «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (١يو ٢: ٢) أجل كان هو «الذبح العظيم» الذي فدى بدمه الإنسان.
وقد عرف الله مقدماً وحشية الإنسان وهمجيته، عرف «أَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك ٦: ٥) ولكنه حوّل بحكمته شر الإنسان وهمجيته لخير البشرية الرازحة تحت أثقال أوزارها كما قرر بطرس في كلماته القائلة: «هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع ٢: ٢٣) وهذه هي الحكمة الإلهية التي أوضحها بولس بالكلمات: «وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (١ كو ١: ٢٣ و٢٤).
لقد سمح الله القادر على كل شيء للناس الضعفاء أن يكونوا المحكمة، والقاضي، والمحلفين، والنيابة، ومنفذي القانون، حتى ينفذوا في ابنه حكم الموت الذي كان لا بد أن ينفذ فيهم، وحتى يروا مدى فظاعة ما فعلته الخطية بهم إذ جعلتهم يصلبون ابن الله الذي أحسن إليهم، وذلك عندما يتأكدون من حقيقة الشخص الذي مات لأجلهم.
وفي القديم عامل أبناء يعقوب أخاهم يوسف بالشر فباعوه عبداً للتجار الاسماعيليين، الذين باعوه بدورهم إلى «فوطيفار» في مصر، ولكن الله حول شرهم لخير يوسف وخير الناس وخيرهم. ولما أتوا إليه بعد موت أبيه قائلين «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلاً: هٰكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ! ٱصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلٰهِ أَبِيكَ... فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ ٱللّٰهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرّاً، أَمَّا ٱللّٰهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْراً، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا ٱلْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْباً كَثِيراً» (تك ٥٠: ١٦ - ٢٠).
هكذا كان أيضاً في «صلب المسيح» قصد به صالبوه شراً، وقصد به الله فداء أبدياً، ولأن الفادي لا بد أن يكون إلهاً وإنساناً في وقت واحد لكي يتمم بحق عملية الفداء، إذ لا يعقل ولا يُستساغ أن يكون الحيوان أياً كان نوعه أو فصيلته فداء للإنسان، ولأن الفداء أمر حتمي لينال به الإنسان الغفران. فلهذا السبب يتحتم الإيمان بأن المسيح هو الله.