١ - الخطية في الإسلام
وردت في نصوص القرآن طائفة من الكلمات التي تعبّر عن الخطية، أشهرها:
- الذنب: وقد خصص القرآن لها ٣٩ آية، أكثرها تداولاً «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح ٤٨: ١ و٢).
- الفحشاء: وتُستعمل بالأكثر للتعبير عن خطية الزنا، وقد نهى القرآن عنها بقوله: «وَلاَ تَقْرَبُوا ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ» (الأنعام ٦: ١٥١).
- الوزر: إذ يقول: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (الشرح ٩٤: ١ - ٣).
- الضلال: كقوله: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى؟» (الضحى ٩٣: ٥ - ٨).
- الإثم: كقوله: «وَذَرُوا ظَاهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ» (الأنعام ٦: ١٢٠).
- الخطيئة: كقوله: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً» (النساء ٤: ١١٢).
وهناك كلمات أخرى كثيرة استخدمها الإسلام للتعبير عن مفهوم الخطية، منها الكفر والظلم والفجور والشر والسيئة والسوء والفساد والفسق والبهتان.
موقف الإسلام من الخطية الأصلية
يؤكد القرآن وجود الخطية الأصلية ويقرّ بأنها كانت سبباً لسقوط آدم وحواء وذريتهما، وذلك في آيات كثيرة منه، نكتفي بذكر أوضحها: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ» (البقرة ٢: ٣٥ - ٣٧). ولنلاحظ صيغة الجمع «اهبطوا» مع أن الكلام موجَّه إلى اثنين فقط، هما آدم وحواء. وهذا يعني أن آثار خطية أبوينا الأوّلَين حلّت بذريته، كما يقولون، فقد «عصى آدم فعصَت ذريته».اختلف علماء المسلمين في المكان الذي كان فيه آدم وحواء قبل السقوط، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الإمام «الجبائي» أن هذه الجنة كانت في السماء السابعة، والدليل على ذلك قوله «اهبطوا» نجد عالِماً آخر مثل أبو القاسم البلمني يقول إن الجنة كانت في الأرض، وفسَّر الإهباط بالانتقال من بقعة إلى أخرى.ويتفق القرآن مع التوراة في أن آدم وحواء أقدما على الأكل من الشجرة بغواية الشيطان، إذ يقول: «فأزلَّهما الشيطان». ولما كان آدم في نظر القرآن نبياً، والأنبياء (حسب الفكر الإسلامي) معصومون عن الخطأ، فقد قام إشكال في حادث سقوط آدم. وحاول مفسرو المسلمين الخروج من الإشكال فقالوا: إن آدم عندما صدرت عنه تلك الزلَّة لم يكن نبياً، ثم بعد ذلك صار نبياً. غير أن هذا الرأي لم يلقَ إجماعاً، وقال آخرون إن آدم كان نبياً منذ البدء، وإنما وقع في زلته وهو ناسٍ. ومثَّلوه بالصائم الذي يشتغل بأمر ما يستغرقه ويغلب عليه، فيسهو عن الصوم ويأكل أثناء ذلك السهو، لا عن قصد.ولكن كيف يمكن أن يُقبل مثل هذا التفسير، والقرآن يقول في الآية التالية: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ» (البقرة ٢: ٣٧). فكلمة «تاب» هنا تدل على أنه وقع في الخطية فعلاً وباختياره، وأنه حاول إلقاء المسئولية على حواء كما تخبرنا التوراة. ثم أن كلمات آدم وحواء إلى ربّهما تؤكد ما ذهبنا إليه «قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ» (الأعراف ٧: ٢٣).وهذا ما قاله الإمام الفخر الرازي: قصة آدم عليه السلام، تمسكوا بها من سبعة أوجه:
- إنه كان عاصياً، والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة، لوجهين:
أ - إن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى: «ومن يَعْصَ الله ورسوله فإن له نار جهنم».
ب - إن العاصي اسم ذم، فيجب أن لا يتناول إلا صاحب الكبيرة.
- في التمسك بقصة آدم إنه كان غاوياً، كقول القرآن «فغوى». والغِيّ ضد الرُّشد.
- إنه تائب والتائب مذنب. والتائب هو النادم على فعل الذنب. والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً للذنب. فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب في الكذب، وإن صدق فيه فهو المطلوب.
- إنه ارتكب المنهي عنه في قوله: «أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ؟» (الأعراف ٧: ٢٢) «وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ ٱلشَّجَرَةَ» (البقرة ٢: ٣٥). وارتكاب المنهي عنه عين الذنب.
- سُمِّي ظالماً في قوله: «فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّالِمِينَ» (البقرة ٢: ٣٥). وهو سمَّى نفسه ظالماً في قوله: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا» (الأعراف ٧: ٢٣) والظالم ملعون لقوله: «أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ» (هود ١١: ١٨). ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة.
- اعترف بأنه لولا مغفرة الله له لكان من الخاسرين في قوله: «وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة.
وهناك نص قرآني يحسم الموضوع في أن آدم مذنب، هو قوله: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه ٢٠: ١٢٠ و١٢١). و «غوى» من الغواية. وقال الرازي في تفسيرها: «الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغيّ ضد الرشد. ومثل هذا الإثم لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه».ولقد تعجب الإمام الباهلي من خطية آدم فقال: «إن واقعة آدم عجيبة، لأن الله تعالى رغَّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله: «يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى» (طه ٢٠: ١١٧ - ١١٩). ورغَّبه إبليس في دوام الراحة بقوله: «هل أدلّك عن شجرة الخلد؟» وفي انتظام المعيشة بقوله: «وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى» (طه ٢٠: ١٢٠). فكان الشيء الذي رغَّب الله به آدم هو الشيء الذي رغّبه فيه إبليس، إلا أن الله وقَّف ذلك على الاحتراس من تلك الشجرة، وإبليس وقّفه على الإقدام عليها. ثم أن آدم مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه ومربّيه وناصره، أعلمه أن إبليس عدوه، فكيف قَبِلَ قول إبليس مع علمه بكمال عداوته له، وأعرض عن قول الله؟» .لقد عجز مفسرو المسلمين عن إخفاء ذنب آدم، لأن القرآن يقول: «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» (طه ٢٠: ١٢١). وأجمعوا أن العصيان ذنب، وأن العاصي اسم للذم، فلا يُطلق إلا على صاحب الكبيرة، ولا معنى لصاحب الكبيرة، إلا من فعل فعلاً يُعاقب عليه.أخطأ الإنسان منذ البداية، فقال عن آدم وحواء: «فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ» (البقرة ٢: ٣٦). طَرَدَ الله آدم من الجنة فانفصل روحياً عن الله.تقول شريعة الله: «أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية ٦: ٢٣). والموت المقصود هنا هو الانفصال الروحي عن الله. فلما أخطأ آدم مات روحياً، وتابعت ذريته السير على منواله «عصى آدم فعصت ذريته» فكل بني آدم خطّاء. وهذا ما يقوله القرآن أيضاً: «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَيَطْغَى» (العلق ٩٦: ٦) «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (إبرهيم ١٤: ٣٤) «إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» أي كفورٌ جاحدٌ بالنعمة (العاديات ١٠٠: ٦) ونفس الإنسان «أَمَّارَةٌ بِٱلسُّوءِ» (يوسف ١٢: ٥٣) «وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ» (النحل ١٦: ٦١). إذاً كيف ينجو الإنسان من الجحيم وهو بهذه الطبيعة الساقطة؟!ولا ينسب القرآن الخطية إلى آدم فحسب، بل ينسبها إلى كل الأنبياء - نورد منهم:إبرهيم أب المؤمنين والأنبياء، كفر ثم اهتدى (الأنعام ٦: ٧٦ وإبرهيم ١٤: ٤١) وكذب ثلاث مرات كما يقول الحديث: «لم يكذب إبرهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، اثنتين في ذات الله: قوله «إني سقيم» (الصافات ٣٧: ٨٩) وقوله: «بل فعله كبيرهم هذا» (الأنبياء ٢١: ٦٣) وقوله لسارة هي أختي» .وموسى صاحب الشريعة، الذي كلّم الله تكليماً (النساء ٤: ١٦٤) وكز المصريّ فقضى عليه، فقال: «هَذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ» (القصص ٢٨: ١٦).وداود، صاحب الزَّبور: «وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ» (ص ٣٨: ٢٤ و٢٥).وينسب القرآن الخطأ إلى محمد فيقول: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٱلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (الشرح ٩٤: ١ - ٣). ولابد أنه كان وِزراً ثقيلاً ذلك الذي أنقض ظهره! ويقول له: «وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى» (الضحى ٩٣: ٧)، والضلال من أعظم المعاصي والكبائر. ويقول له: «لِيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح ٤٨: ٢) فسبق له ذنوب تتبعها ذنوب. وقد شعر محمد بحاجة دائمة إلى الاستغفار «واستغفر لذنبك» (غافر ٤٠: ٥٥) ويتكرر استغفاره في النساء ١٠٦ ومحمد ١٩.ويُنسب الشك إلى محمد، فيُقال له: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَٱسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَأُونَ ٱلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ ٱلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ» (يونس ١٠: ٩٤). وتملَّق محمد قومه بالشفاعة للأصنام في (الإسراء ١٧: ٧٣) فيُقال له: «وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ». وأذِنَ محمد للمنافقين بالقعود عن الجهاد: «عَفَا ٱللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» (التوبة ٩: ٤٣). وفي الحديث ورد قوله: «فوالله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (البخاري - مشكاة المصابيح حديث رقم ٢٣٢٣).لكن هناك واحداً فقط لا يذكر له القرآن إثماً ولا علاقة بالخطية على الإطلاق، هو المسيح عيسى ابن مريم، ولا نجد له حاجة للاستغفار أو التوبة، بل ميَّزه القرآن بصفات، يسطع نورها بالمقارنة بما ارتكبه الأنبياء من خطايا.وهكذا نرى أن «ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية ٣: ١٢) فوقع الجميع تحت حكم الموت، لأن الله عادل وشريعته تقضي بموت الجميع. فإذا كان المشرّع لا يعمل بما سنَّهُ، فقُلْ على العدالة السلام. لكن حاشا لله، فلا بدّ لشريعته أن تأخذ مجراها، فالله قدوس ولا يطيق الإثم.ومنذ البداية كانت الذبائح الدموية وسيلة التكفير عن الخطية، وهو ما نصَّت عليها شريعة موسى، ويتضح ذلك في قول الإنجيل: «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين ٩: ٢٢). وهناك مثل واضح على الفداء الإلهي في القول: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (الصافات ٣٧: ١٠٧). وهذه كلها تشير إلى ذبيحة المسيح العظمى، لأن الذبيحة بنفسها لا يمكن أن تفدي الإنسان، لأنها لا تساوي قيمته.وتوجد في الإسلام ذبائح دموية للحصول على مغفرة الخطايا والقبول لدى الله. فالمسلمون يعلمون أن ذبائحهم في عيد الأضحى ليست لمجرد الأكل.فما هو سببها؟ أليست هي للتكفير عن الخطايا، ومحاولة الحصول على الغفران؟! ٢ - الخطية في لغات الكتب الدينية
الخطية في اللغة العربية:
قاموس البستان: يوضح معنى الخطية ومرادفاتها على النحو الآتي:خطئ = تعمد الذنبأخطأ = أصاب الذنب على غير عمدخطأ الهدف = أنه لم يصب الهدفوالخاطئ = من تعمد لما لا ينبغيالآثم = المذنبالشر = اسم جامع للرذائل والآثاموالخطية كما وردت في الأصلين العبري واليوناني تحمل المعاني التالية:
- الخطية: ومعناها عدم إصابة الهدف. فلكلٍ منا هدف خلقه الله لأجله. وعندما لا نصيب هذا الهدف ولا نمجد الله نكون بذلك قد أخطأنا إليه.
- الإثم: ويُقصد به عدم البر وعدم الاستقامة. إنها ترينا عَوَجَ البشر الذين لا يسيرون في الطريق المستقيم الذي هو طريق البر.
- الشر: ويُقصد به التعدي وتخطي الحدود التي رسمها الله لنا، فقد نشأنا وفينا دوافع وميول لها حدود مقدسة، ومتى تعدَّينا هذه الحدود نكون قد فعلنا الشر، فعندما يتحول النظر البريء إلى شهوة، وحب الاستطلاع إلى تطفل، نكون بذلك قد تعدَّينا الحدود المقدسة التي رسمها الله.
- المعصية: وهي الثورة على الله. العصاة هم المستهزئون الذين سخروا بالله واحتقروا كلامه.
وفيما عدا «المعصية» فإن الأنواع الثلاثة الأخرى يمكن أن تكون خطايا سهو أو خطايا عمد. وخطايا السهو هي التي رُسمت لها كل الشرائع والذبائح في التوراة. أما خطايا العمد فلا كفارة لها. قال داود النبي: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى» (مزمور ٥١: ١٦). وهذا يعني أن خطايا العمد لا يكفر عنها سوى القلب المنكسر والروح المنسحق أمام الله، ولذلك صلى داود النبي: «ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي» (مزمور ٥١: ١ و٢).يحدثنا سفر الخروج ٣٤: ٧ عن الله أنه «غافر الإثم والمعصية والخطية» مما يرينا ثلاثة أنواع: إثم، ومعصية، وخطية. ويصوّر لنا كاتب المزمور الأول (١: ١) «الرَّجُلِ ٱلَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ ٱلأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ ٱلْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ». ونرى هنا ثلاثة أنواع: «الأشرار، والخطاة، والمستهزئين». ويُقصَد بالمستهزئين «العصاة» الساخرين بشريعة الله.٣ - الخطية في علم النفس
كلمة «خطية» تعبير فقهي لاهوتي وليست تعبيراً من علم النفس، لأن الخطية ترتبط بالسلوك الأخلاقي للإنسان، بينما يهتم علم النفس بدراسة «الذنب» والإحساس به الذي يلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان العقلية، سليمة كانت أو مريضة.
هل يبرر علم النفس الخطية؟
يقول بعض البسطاء إن علم النفس يبرِّر الخطية. وليس هذا صحيحاً، فعلم النفس لا يحل محل الدين، وإنما هو وسيلة يستخدمها الدين لتوضيح أغراضه. يعاون علم النفس الدين في فهم الأسباب الدافعة للخطية، فبينما يكشف الدين النقاب عن «الخطأ» ويوضح له خطيته بأنها «الانفصال عن الله» يكشف علم النفس النقاب عن الأسباب التي دفعت المخطئ لهذا الخطأ.٤ - الخطية في المسيحية
الخطية ظاهرة في تاريخ البشر، يقرّ بها كل إنسان يفحص نفسه أو ينظر إلى غيره، لأن جميع البشر، حتى الذين لم يتلقّوا نور إعلانات السماء يشعرون بخطاياهم، ويقرُّون بنقصهم وعجزهم عن القيام بما كلَّفهم الله به.وليست الخطية هي الشر الفاضح فقط، بل هي أساساً الانفصال عن الله خالقنا والهدف الوحيد لنا. وهذا الانفصال لا يكون بارتكاب الشر فحسب، بل هو أيضاً عدم فعل الخير. وقد عُرف بالاختبار أن الإنسان «الطبيعي» لا يستطيع أن يميّز قوة الخطية وشدة فعلها في البشر كما يميزها الإنسان «الروحي» الذي أدَّبته شريعة الله وقادته إلى المسيح، فأعطاه النعمة ليعرف حقيقة الخطية وأثرها في جرّ الإنسان إلى حال الفساد، وتبعاً لذلك صار يشعر بالحاجة إلى معونة النعمة الإلهية، وإلى دم الكفارة لأجل تبريره.والخطية بوجه عام هي التعدي (١يوحنا ٣: ٤) على شريعة الله، فهي جُرْمٌ بحق الله، مهما كان عذر مرتكبها، وأياً كان حجمها. دخول الخطية إلى العالم:
قال الرسول بولس: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية ٥: ١٢). وهذا يعني أن الخطية بدأت في عالمنا بآدم أب البشر. ويعتبر بولس أن آدم وحواء واحد يمثل البشرية كلها، فيقول «بإنسان واحد» معتمداً على قول موسى «ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُ» (تكوين ٥: ٢). ولم يذكر الرسول بولس تجربة الحيَّة، ولا معصية حواء، لأن غايته أن يبيّن أن آدم كان في ما فعله نائباً عن كل نسله. وهذا يعني أن كل إنسان خاطئ فاسد بطبيعته، وخاطئ فاسد بأعماله. انتقال الخطية:
لا يمكن للكائن الحي أن يلد كائناً مغايراً له، فالثور لا يلد حملاً. وقال المسيح: «هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ ٱلشَّوْكِ عِنَباً، أَوْ مِنَ ٱلْحَسَكِ تِيناً؟» (متّى ٧: ١٦). وهذا القانون ينطبق على الإنسان، فآدم أب البشر فقد بعصيانه حياة الاستقامة، وقصاصاً له طُرد من فردوس الطهر إلى أرض لعنها الله بسبب الخطية. وعلى الأرض أنجب آدم نسلاً كان بالطبيعة مطروداً، فاقداً ميراثه في الفردوس. ويقول النبي داود: «بِٱلإِثْمِ صُوِّرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور ٥١: ٥) وقال الرسول بولس «لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ ٱللّٰهَ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية ٣: ١٠ - ١٢).وشرح أغسطينوس تعاليم الكتاب المقدس في السقوط، فقال:
- خلق الله الإنسان على صورته. ويتفق المسلم مع هذه الفكرة، في تعليقه على قصة خلق آدم، فيقول عن آدم: «كان مختاراً خالداً، وخوَّله سلطاناً على الخلائق مع القدرة على اختيار الخير والشر، وإثبات طبيعته الأخلاقية».
- ترك الله آدم لحرية إرادته، ولما جرَّبه إبليس أخطأ إلى الله وسقط من حالة البراءة التي خُلق عليها.
- نشأ عن معصيته ضياع الصورة الإلهية وفساد طبيعته كلها، حتى صار ميتاً روحياً، لا يميل إلى الخير الروحي، وعاجزاً عنه ومضاداً له. وصار أيضاً قابلاً للموت جسدياً، وعُرْضة لكل سيئات هذه الحياة والموت الأبدي.
- الاتحاد النيابي بين آدم ونسله هو علة ما حلَّ بهم من نفس نتائج المعصية التي حلَّت عليه، فإنهم يولدون خالين من صورة الله، فاسدين أخلاقياً، وفي حال الدينونة (راجع رومية ٥: ١٢ - ١٩).
- لم يرث الإنسان طبيعة فاسدة فحسب، بل أخطأ بأعماله وأفعاله.
- ضياع البرّ الأصلي وفساد الطبيعة، اللذين نتجا عن سقوط آدم، وهما عقاب لخطيته الأولى.
- التجديد، أو الدعوة الفعّالة، هو عمل الروح القدس العجيب الذي تكون فيه النفس مفعولاً لا فاعلاً. ويتعلّق كله بإرادة الله. فيلزم عن ذلك أن الخلاص هو من نعمة الله. والنعمة هي عطية مجانية، من شخص قادر، لآخر عاجز وغير مستحق.
أجرة الخطية:
قال الله لآدم: «وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين ٢: ١٧). ونقرأ أيضاً في حزقيال ١٨: ٢٠ «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» ونقرأ في رسالة رومية ٦: ٢٣ «لأَنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» وقد مات آدم وحواء روحياً، حين سقطا وانفصلا عن الله، وفقدا تلك الشركة الروحية المقدسة مع الرب الإله. وتبعاً لذلك فقدا الشوق للمثول في حضرته، فاختبأ آدم وحواء من وجهه في وسط أشجار الجنة (تكوين ٣: ٨). ولا بد أنهما شعرا بالضعف الجسدي والمرض والانحلال، فتذكرا إنذار الرب: «يوم تأكل منها موتاً تموت». ومن المروّع أن يرتسم عقاب عصيان آدم أمام عينيه!ولكن هل خسرت العائلة الأولى كل امتيازاتها؟ وهل ضاع الرجاء في عودة الإنسان إلى الفردوس الذي فقده بسبب الخطية؟ وهل انتُزعت منه طهارته إلى الأبد؟ كلا! لأن الله محب. إنه هو ذاته محبة، ومحبته غنية، وعنده غفران كثير. وهو الذي لا يُسرّ بموت الخاطئ. فأخذ المسيح دور المنقذ الفادي، الكلمة الذي كان في البدء عند الله. وأول ما صنعته محبة الله هو ستر عري آدم وحواء بلباسٍ خاصٍ من تدبيره الصالح. إنه «لباس التقوى» (الأعراف ٧: ٢٦)، «فصنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما» (تكوين ٣: ٢١). وبذلك كرَّس الرب الإله عهد الكفارة، ثم أعطى لهما الله «كلماتٍ» هي الوعد بمجيء المسيح، نسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين ٣: ١٥). لماذا أجرة الخطية موت؟
قد لا تحتاج لتعقيم الماء قبل أن تشربه. وقد تتهاون مع قليل من الغبار في الماء لو كنت في شديد العطش. لكن مهما عظم عطشك فإنك لا تتهاون مع السم!وإذا كان عندك كأسان من الماء، بأحدهما نقطة واحدة من سم قاتل، وبالآخر عشر نقاط من نفس السم، فإنك لاتفضل أحدهما على الآخر، فبالكأسين سم قاتل.هذا المثل يوضح لماذا يقول الله: «مَنْ عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب ٢: ١٠). فالخطية ليست مجرد غبار، بل هي أكثر ضرراً من السم نفسه! حتى أن الرسول بولس عبّر عنها وعن خطورتها وشرها بالقول: «ٱلْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدّاً» (رومية ٧: ١٣). فالخطية مهما صغُرت تفصل الإنسان عن الله، لأنها لا تتفق مع قداسة الله، فهو لا يطيق الإثم، فمع محبته للخاطئ إلا أنه يكره الخطية. تناسب قوة الدواء مع درجة الداء:
من البديهي أننا نحتاج لدواءٍ يناسب الداء، وكلما تفاقمت حالة الداء احتجنا لدواءٍ أقوى وأنسب.وتكمن خطورة الخطية في أنها موجَّهة ضد الله نفسه. يخطئ الإنسان في حق من هو أقل منه، وهذا أسهل جداً من أن يخطئ في حق شخصٍ مساوٍ له. كما أن هذا أسهل جداً من ارتكاب الخطأ في حق من هو أعلى منه. فالأمر يزداد خطورة عندما يخطئ العبد في حق السيد أو الرئيس. وهذا ما حدث، فالخطية هي خطأ العبد ضد السيد الأعظم وهو الله. ومن هنا تظهر خطورة الخطية التي يرتكبها هذا العبد الضعيف في حق سيد الكون.وتكمن خطورة الخطية في أنها موجَّهة ضد الله الذي لا نهاية لعظمته ومجده، فالعقوبة المستحقة عنها هي عقوبة لا نهاية لها، فليس من الغريب أن يقول الله لآدم إنه يوم يأكل من الشجرة التي نهاه عنها «موتاً يموت».والخطية خطيرة تستوجب الموت، وتحتاج إلى كفارة أو ستر كافٍ. وكلمة «كفارة» في أصلها العبري تعني ستر أو غطاء، وكان لابد من كفارة تستر خطية الإنسان وعريه.تُرى ما هي الكفارة الكافية التي ترضي الله، وتبرر الإنسان أمامه؟