١ - عبدٌ لا ربّ: كقول القرآن بلسان المسيح «إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً» (سورة مريم ١٩: ٣٠-٣٢).
جاء في التفسير الكبير للإمام الرازيّ أنّ في هذه الكلمة «عبد الله»أربع فوائد:
الفائدة الأولى: إنّه رفع الوهم عن الذي ذهبتْ إليه النصارى من أنّه إله.
الفائدة الثانية: إنّ المسيح لمّا أقرّ بالعبوديّة، فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض. وإن كان كاذباً لم تكن القوّة قوّة إلهيّة، بل قوّة شيطانيّة، فعلى التقديرَين يبطل كونه إلهاً.
الفائدة الثالثة: إنّ الذي اشتدّت الحاجة إليه في ذلك الوقت، إنّما هو نفي تهمة الزنا عن مريم. ثمّ أنّ عيسى لم ينصّ على ذلك، وإنّما نصّ على إثبات عبوديّة نفسه. كأنّه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أَوْلى من إزالة التهمة عن الأمّ.
الفائدة الرابعة: إنّ التكلّم بإزالة هذه التهمة عن الله يفيد إزالة التهمة عن الأمّ. لأنّ الله لا يخصّ الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة.
ثمّ يعلّق على اعتقاد النصارى بلاهوت المسيح، فيقول «إنّ مذهب النصارى متخبّط جدّاً. فقد اتّفقوا أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بجسم ولا متحيّز ومع ذلك فإنّا نذكر تقسيماً يبطل مذهبه على جميع الوجوه. فنقول: إمّا أن يعتقدوا كونه متحيّزاً، أبطلنا قولهم على حدوث الأجسام. وإن اعتقدوا أنّه ليس متحيّزاً فحينئذٍ يبطل قولهم من أنّ الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم. لأنّ ذلك لا يُعقَل إلاّ في الأجسام».
ونحن نعتقد أنّ فكر القرآن بالنسبة لشخص المسيح قائم على حقيقتَين تحملان سرّاً لا يدركه الإنسان الطبيعيّ:
أ - إنّ المسيح بصفة كونه ابن مريم، هو عبد الله. وهذا التعبير ورد في لغة الأنبياء. فقد جاء في إشعياء ٥٢: ١٣ و٥٣: ١١ «هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً... وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا».
ب - إنّ هذه الصفة «عبد»لا تستطيع أن تنفي القول القرآنيّ بأنّه «كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه».
والمتأمّل بعمق في هذا النصّ القرآنيّ المزدوج، يلاحظ من خلاله إعلان بولس، أنّ يسوع «صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية ١: ١-٤).
٢ - المسيح مثل آدم، كقوله «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (سورة آل عمران ٣: ٥٩).
جاء في جامع البيان لأبي جعفر الطبريّ أنّ الله قال: يا محمّد أخبر نصارى نجران أنّ شَبَه عيسى في خلقي إيّاه من غير فحل، كشبه آدم الذي قلتُ له كُن فيكون، من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. فليس خلقي عيسى من أمّه من غير فحل بأعجب من خلق آدم.
وعن محمّد بن سعد، عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال: جاء رهط من أهل نجران، قدموا على محمّد، وكان فيهم السيّد والعاقب. فقالوا لمحمّد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال مَن هو؟ فقالوا عيسى، تزعم أنّه عبد الله. فقال محمّد: أجل إنّه عبد الله. فقالوا: هل رأيت مثل عيسى أو أُنبئتَ به؟ ثمّ خرجوا من عنده. فجاءه جبريل بأمر ربّنا السميع العليم، فقال: قُل لهم إذا أتوك إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم.
وفي رواية أخرى عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن المفضّل عن السدي، قال: لمّا بُعث محمّد وسمع به أهل نجران، أتاه أربعة من خيارهم: العاقب والسيّد وماسرجس وماريجز فسألوه ما يقول في عيسى؟ فقال هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا «لا. هو الله، نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثمّ خرج منها فأرانا. فهل رأيت قطّ إنساناً وُلِد من غير أبٍ؟!»فأنزل الله عزّ وجلّ أنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم.
وفي رواية ثالثة، عن القسام، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: بلغنا أنّ نصارى نجران، قدم وفدهم على محمّد، فيهم العاقب والسيّد. فقالا: يا محمّد لِمَ تشتم صاحبنا؟ قال مَن هو صاحبكما؟ قالا عيسى ابن مريم. تزعم أنّه عبد. قال: أجل إنّه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا منه، وقالوا: إن كنتَ صادقاً فأرِنا عبداً يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتصير طيراً، لكنّه إله. فسكت حتّى أتاه جبريل فقال: يا محمّد لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم. فقال محمّد: يا جبريل إنّهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى، فقال جبريل: إنّ مثل عيسى، كمثل آدم.