أهمية ميلاد المسيح
كان من نتائج السقوط أن فقد الإنسان طبيعة الصلاح وغرق في بحر الخطايا والآثام، فاظلمَّت روحه، وانحط فكره، وانقاد بفعل الخطية إلى عبادة الأوثان، وقد عجزت كل القوانين الأرضية والفلسفات البشرية.. عن إنقاذه من لجة الموت، والمضي به إلى شاطيء الخلاص! فعاش لا يعرف من الحياة سوى أشباحها.
في وسط هذه الظلمات تطلَّعت البشريَّة إلي مُخلَّص، وإذ كان متعذَّراً بين الخلق أن يوجد مثل هذا الجبار، تركَّزت الآمال في انتظار مجيئه من العالم الآخر! وهكذا كان الأنبياء يرفعون كل يوم صلواتهم إلي الله، متوسّلين أن تفتح السماء أبوابها لينزل البار مشتهى الأجيال، إلي أن جاء ملء الزمان والتقت السماء والأرض، وتعانقا في شخص المسيح يوم ميلاده، لقد نزل البار من السماء، وأعدت الأرض طينته، فدُعي ابن الله وابن الإنسان!
- 9 -
- 10 -
وُلِدَ في كهف ووضع في مذود، مع أنَّ الملاك قال لأُمه أنَّه سيجلس على كرسي داود إلي الأبد (لو13:1)، فهل أخطأ الملاك؟ حاشا! لكنَّ المسيح قد نزل ضيفاً على مملكة الحيوان ليُضرم نيران ثورة لم تخمُد شعلتها بعد، نعم ثورة أبطلت شريعة الغاب، ورفعت الحق على الباطل، والمحبَّة على الكراهية، وساوت بين الأسياد والعبيد، والأغنياء والفقراء، فالفقر عند المزود قد صار غنىً، والرد دفئاً، والظلمة خيطاً من نور يُضيء الطريق أمام كل زورق تائه في الحياة.
تُرى كيف كان حال المجتمع قبل مجيء المسيح؟ كان مستقراً ماديّاً، مقلقاً اجتماعيّاً، مفلساً روحيّاً، بدليل أن الغالبية لم يكن لديهم وعي بمعنى الخطيّة ولم يهتموا بالفشل الروحيّ، فعبدوا البشر، وطلبوا الغفران من الشمس! وهكذا أفلست الديانات القديمة وعجزت عن حل مشكلة الإنسان، فازداد الاشتياق والتطلّع إلي المُخلّص، بعد أن ساد اقتناع تام بأنَّ الإنسان في حاجة إلي كائن آخر يفوقه في قدراته، ليُخلّصه من تلك القوى الجبَّارة التي عبدها كالكواكب والنجوم والقدر الأعمى..
أمَّا اليهود فقد عاشوا ينتظرون مجيّ المُخلَّص، ولم يكن فكرهم قائماً على الإيحاء النفسيّ أو التفكير العقليّ، بل كان واقعاً فعلياً، مرتكزاً على وعود ومواثيق خطّتها يد الله، بأحرف من ذهب وكلمات من نور على صفحات الكتاب المُقدّس، ولهذا ظهر مرات كثيرة بأشكال مختلفة، لتكون معالم على التجسّد الأعظم في ملء الزمان، كما أعطاهم رموزاً كثيرة، تُشير في جوهرها لإمكانية ظهور الله في صور مختلفة لَعَلَّ أشهرها العُليَّقة وعمود السحاب وعصا هرون.. لكنَّهم كالوثنيين أحبّوا الظلمة أكثر من النور، ففي أورشليم كانت عيون كثيرة تُحدّق في الأشياء الصغيرة، إنَّهم رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيين، الذين إظلم فكرهم وقلبهم وقد أضلوا الشعب بتعاليمهم! فصاروا كحشرات المستنقعات التي تحيا بين القاذورات أو كأفاعي الكهوف التي تبث في الفضاء سمومها!
إنَّ ميلاد المسيح إعلان واضح أنَّ إلهنا ليس أنانياً لا يهمَّه البشر، ولا يفكر إلاَّ بسجود العبيد، ونحر الذبائح وحرق البخور.. فمثل هذا الإله المنزوي في سمائه بعيداً عن خلائقه لا وجود له، فالله محبّة، ومن طبع المحبّة أن تشقى لتُسعد الآخرين، تولد في القفر، وتحيا في الآلام، وتصعد كل يوم على الجُلجثة، وتُسمّر على صليب الإنسانية.. لتُكحّل عيونهم بأنوار الخلاص! فيُعاين كل إنسان في داخله مسيحاً جديداً، مدعواً لبذل حياته لأجل افتداء البشر! وهكذا مَنْ انسكبت محبّة الله في قلبه يصير كالبحر الواسع فيه تُصبْ ضعفات البشر فيُسر بتنقيتها، يتلقّى همومهم فيخفيها في لُججه العميقة، فهل لنا أن نحمل قارورة حُبّه عالياً ونقطرها بلسماً على جراح البشرية!
- 11 -
- 12 -
التجسّد هو الحلقة الأولى في سلسلة الفداء التي تشمل: الميلاد، الصلب، القيامة، الصعود، حلول الروح القدس، ففي الميلاد رأينا يسوع كشمس مُشرقة، ثم انتهت على الجُلجثة كشمس المغيب تذوب في صدر الحياة ولكن بين الشروق والغروب، ألهبت حرارة شمس البر قلوب كثيرين وأضاء شعاعها الذهبيّ الطريق ليرد ضالين..
فها المرأة الخاطئة التي تلاعبت بقلوب كثيرين، وكانت ترى اسمها مكتوباً على الشجر، منقوراً على الصخور، ها هي تستيقظ يوماً لتجد نفسها عنقوداً يابساً على كرمة الحياة، ذابلة، قيثارة مُحطَّمة الأوتار، عشاً هجره النسور، لكنَّ يسوع يظهر في ليلتها المُظلمة، ويشد ثانية أوتار قيثارتها المُحطّمة، وهناك في بيت سمعان تتقابل مع يسوع، وفى يدها اليمنى قارورة طيب فيها عصير حياتها من جمال ومال، أمَّا اليد الأُخرى فقد كان فيها عذاب مرير ويأس مُخيف! وتطبع المرأة قُبلة ملؤها الندم على قدمي مُخلّصها، ومن قلب جريح بكت دم، فما أن أفرغت قارورتها حتى امتلأت من رحيق الغفران والرجاء، فغسلت نفسها ونفوس خطاة كثيرين كانوا يعيشون مثلها في الظلام.
وكم من أعمى كانت تسيل أحلامه على الطريق لَعَلَّه يُبصر في يوم ما النور، يُكاشف طير السماء آماله وآلامه، يتمنى لو ولد في عهد موسى ليتذوق طعم المن النازل من السماء، أو يعزف على قيثارة داود، إلى أن جاء المسيح وفتح عينيه فتحول إلى شعلة من نور، ومسكنه صار مأوى لكل طريد وعاجز ومريض.
لقد أعاد المسيح بميلاده الفريد فرحة البشرية، بعد نبت الغفران في أرضهم ليكون عصاً للعالم الكهل، الذي أحنته الأيام من كثرة سجوده للأصنام؟! ولماذا نحزن إن كان الله قد شرّف طبيعتنا، وأعطانا أن نكون شركاء الطبيعة الإلهية ووارثين مجده؟ (أف6:2).
لا نُنكر أنَّ كواكب كثيرة ظهرت في سماء إسرائيل، أرسلها الله لتشق له طريقاً وسط ظلمة الوثنيين وقليلي الإيمان.. إلاَّ أنَّها ومضات لو قورنت بنور المسيح، الذي أضاء الطريق وأشعل نار الحُب الإلهيّ في قلوب كثيرين فأصبح فاصلاً بين عهدين وعلامة مُميَّزة في التاريخ.
أتتذكَّرون السامرية! كانت امرأة ساقها الهوى إلى متاهات الظلام، وأصبحت تحيا في عالم بلا سماء ولا في فضائه نجوم، بل غيوم ووساوس من المجهول، لكنَّ يسوع يتحدى تقاليد اليهود ويتقابل معها عند بئر يعقوب، لأنَّه كان يعلم أنَّها كفراشة عطشى تطير حائرة تبحث عن ماء الحياة، فما أن رأته حتى قلقت كطريدة باغتها الصياد، وابتدأ يسوع يخوض معركة النور ضد الظلمة، وتعود السامرية لبيتها نوراً بعد أن كانت ظلاماً! والآن يجب أن نركع سجوداً، لأنَّ ابن الله تخلى عن مجده وصار بشريّاً سويّاً، ليُجدد ما قد هُدم فأصبح يوم ميلاده ميلاداً جديداً للخليقة، والحق إن يسوع فضّل التواضع على المجد، ليعلّم الإنسان عظمة التصاغر وعلو التواضع، فهذا أعظم طريق للوصول إلى قلب الله، وهكذا استطاع المسيح بتواضعه أن يجر العالم إلى عتبة كهفه، فلا عجب إن خر ملوك عند مذوده، واضعين تيجانهم البالية لكي يبنوا ممالكهم على حجارة كهفه!