٣ - شهادة نبوات التوراة
قبل أن يسجل الإنجيل تفاصيل حادثة الصلب، وقبل تأكيد نصوص القرآن لها، فإن أسفار التوارة قد تنبأت بها. وبذلك لم يعد هناك مجال لقول متشكك، أو ادّعاء مدعٍ للطعن في حقيقة حادثة الصلب.
وقد تحققت في المسيح أكثر من ٣٠٠ نبوة وإشارة توراتية، معظمها عن أسبوع الآلام من الصلب للقيامة. وقد قام بيتر ستونر (وهو عالِم رياضيات أمريكي) بحساب نسبة تحقيق ٤٨ نبوة فوجد أن نسبة تحقيقها بالصدفة هي فرصة واحدة من بين واحد وأمامه ١٨١ صفراً من الفُرص (أي١: ١ x ١٠ أسّ ١٨١).
وهذه بعض الأمثلة:
تنبأ النبي زكريا عن الثلاثين من الفضة التي قبضها يهوذا ليسلّم المسيح: «فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَٱمْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ. فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ، ٱلثَّمَنَ ٱلْكَرِيمَ ٱلَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ» (زكريا ١١: ١٢ و١٣).
وسجل البشير متى في إنجيله إتمام هذه النبوة: «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً. فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ» (متى ٢٦: ١٤ و١٥ و٢٧: ٣ - ٧).
وتنبأ النبي داود في مزاميره عن ترك الآب للمسيح: «إِلٰهِي! إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟» (مزمور ٢٢: ١). وقد سجل البشير متّى إتمامها في إنجيله: «وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: إِيلِي إِيلِي، لَمَا شَبَقْتَنِي (أَيْ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟)» (متّى ٢٧: ٤٦). وتنبأ النبي داود أيضاً عن شرب المسيح الخل على الصليب: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور ٦٩: ٢١). وسجل البشير يوحنا إتمامها: «بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاًّ، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يوحنا ١٩: ٢٨ و٢٩).
وتنبأ داود أيضاً عن تقسيم ثياب المسيح بالقرعة، فقال: «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور ٢٢: ١٨). وجاء تحقيقها في إنجيل يوحنا: «ثُمَّ إِنَّ ٱلْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً... وَكَانَ ٱلْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ» (يوحنا١٩: ٢٣ و٢٤).
وتنبأت المزامير أنه لا تُكسر عظامه: «يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ» (مزمور ٣٤: ٢٠). وجاء تحقيقها في إنجيل يوحنا: «فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَوَّلِ وَٱلآخَرِ... وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ» (يوحنا ١٩: ٣٢ و٣٣).
وتنبأ النبي زكريا عن طعن جنبه بالحربة، فقال: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْه» (زكريا ١٢: ١٠). وجاء تحقيق النبوة في إنجيل يوحنا: «لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا ١٩: ٣٤).٤ - شهادة الأناجيل الأربعة للصَّلب
لم يرد لفظ «الصليب» في أسفار العهد القديم، لكنه ورد بأكثر من معنى في العهد الجديد، فالكلمة التي تترجم حالياً «صليب» تفيد في اللغة اليونانية «آلة تعذيب وإعدام» ولكنها اكتسبت معنى خاصاً لارتباطها بموت المسيح. وهناك كلمتان يونانيتان تُستعملان للتعبير عن آلة التعذيب التي نُفّذ بها حكم الموت على المسيح:«إكسيلون» «Xylon» وتعني خشبة أو شجرة.«إستاوروس» «Stouros» وتعني صليب بمفهومه الحالي.الكلمة الأولى «إكسيلون» وردت في العهد الجديد عادة للتعبير عن الخشب كمادة، وهي الكلمة التي وردت في تثنية ٢١: ٢٣ والتي اقتبسها بولس الرسول في غلاطية ٣: ١٣ «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». وقد وردت كلمة «استاوروس» ومشتقاتها مرتين في العهد الجديد، في قصة آلام المسيح، في متى ٢٧: ٤٠ و٤٢ ولوقا ٢٣: ٢٦ ويوحنا ١٩: ١٧. وفي رسائل بولس الرسول سبع عشرة مرة: وردت كلمة «الصليب» سبع مرات، ووردت كلمة «يُصلب» ثماني مرات، وورد تعبير «يُصلب مع» مرتان.وقبل أن نسوق شهادة الأناجيل لصلب المسيح، نورد ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «عبقرية المسيح» ص ١٢٦: «ليس من الصواب أن يُقال إن الأناجيل جميعاً عُمدة لا يُعوّل عليها في تاريخ السيد المسيح، إنما الصواب أنها العُمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ... إنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح. وليس لدينا نحن - بعد قرابة ألفي عام - أحقّ منها بالاعتماد». شهادة المسيح عن الصليب (قبل الحادثة وبعدها):
أعلن المسيح لتلاميذه في مناسبات عديدة أن عمله الخلاصي يستلزم موته على الصليب، وأبرز تصريح منها جاء في خطبة وداعه لهم في الليلة التي أُسلم فيها. وفي ما يلي إعلاناته الخاصة بموته على الصليب لفداء البشر:
- «مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متّى ١٦: ٢١). ونراه هنا يحدد المدينة التي سيموت فيها.
- «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي ٱلْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى ١٧: ٢٢ و٢٣ و٢٠: ١٨ و١٩).
- «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ ٱلْفِصْحُ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ» (متّى ٢٦: ١ و٢). وتراه هنا يحدد الموعد الذي سيموت فيه.
- «وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس ٨: ٣١). وقال هذا الكلام علناً. فانتحى بطرس بالمسيح وقال له: «حاشا لك يا رب!» ولكن المسيح قال لبطرس: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». وقد حدث أن بعض اليونانيين جاءوا إلى المسيح يدعونه لزيارة بلادهم ليجنّبوه الصليب، ولكنه أعلن ضرورة صلبه، وضرب هذا المثل: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا» (يوحنا ١٢: ٢٤ و٢٥).
ولقد جاء قادة اليهود للمسيح يطلبون منه معجزة تبرهن أنه من عند الله، فرفض أن يُجري معجزة لقوم يعلم أنهم لن يقبلوا الإيمان به حتى لو أجرى المعجزة، وقال: «لاَ تُعْطَى لَهُ (هذا الجيل) آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ» - يقصد بذلك موته ودفنه (متّى ١٢: ٣٩ و٤٠).
وعندما سمع اليهود قول المسيح هذا، ثم شاهدوا صلبه يوم الجمعة وقيامته يوم الأحد، لم يقولوا إن هذه الفترة ليست ثلاث أيام وثلاث ليالٍ، وذلك لأنهم كانوا (أ) يحسبون جزءاً من يوم يوماً وليلة، (ب) كما كانوا يبدأون اليوم بعد مغيب الشمس. لذلك اعتبروا يوم الجمعة يوماً (لأن المسيح صُلب قبل غروب شمس يوم الجمعة)، واعتبروا السبت يوماً ثانياً، واعتبروا يوم الأحد (الذي بدأ بعد غروب شمس يوم السبت) يوماً ثالثاً. وهم أولى الناس بتفسير طريقة توقيتهم والحكم عليها.
- «كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس ٩: ٣١).
- «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس ١٠: ٣٣ و٣٤).
- «يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا ٩: ٢٢).
- «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا ٣: ١٤ و١٥).
ومن الأدلة القاطعة على أن المسيح صُلب أنه بعد الصليب قال لتوما: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلٰهِي» (يوحنا ٢٠: ٢٧ و٢٨). فلو لم يكن المسيح قد صُلب ما قال هذا لتوما وللتلاميذ العشرة الموجودين وقت هذا الظهور المجيد بعد القيامة. فالمسيح صادق بشهادة الجميع، وهو هنا يعلن عن الصليب بعد حدوثه.ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة لظهور المسيح بعد قيامته، فقد ظهر عدة مرات لمريديه. وكان أكبر عدد منهم رآه لما «ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ. وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا» (يعني وقت كتابة الرسالة - انظُر ١كورنثوس ١٥: ٦). كل هؤلاء وغيرهم شهود للصليب ولموت المسيح وقيامته.شهادة الرسل: كل من يقرأ سفر أعمال الرسل ورسائل تلاميذ المسيح يلاحظ أن التعاليم التي نشروها وبشروا بها في كل العالم، قامت على المناداة بالمسيح مصلوباً من أجل خطايا العالم. وبعد أيام قليلة من حادثة الصليب، وعلى بُعد أمتار قليلة من مكان الصَّلب في أورشليم، قام بطرس الرسول يقول لليهود: «يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ... أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال ٢: ٢٢ و٢٣). فلو أن الصَّلب لم يحدث لدافع كهنة اليهود وحكام الرومان عن أنفسهم. لكن لم يعترض أحد، بل بالعكس، لما سمعوا نُخسوا في قلوبهم!- وقال الرسول بولس: «نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ... لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ. بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (١كورنثوس ٢: ٦ - ٨). ويوضح الرسول بولس الأمر كله بقوله: «ٱلْكُلُّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ... أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ... لأَنَّهُ جَعَلَ ٱلَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ ٱللّٰهِ فِيهِ» (٢كورنثوس ٥: ١٨ - ٢١).وقد سجل الرسول بولس لنا قانوناً مختصراً للإيمان قال فيه: «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ... فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (١كورنثوس ١٥: ١ - ٤).- وقال الرسول يوحنا: «إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (١يوحنا ١: ٧).وما قدمناه هو مجرد أمثلة بسيطة لشهادات الرسل، الذين قدموا الفكر دون تقديم أدلة، فلم يكن الصليب في قرون المسيحية الأولى موضوع جدل، ولا اعتراض عليه أحد، فعرض رسل المسيحية الحقائق في سلاسة ويسر لأن قرّاءهم يعرفون الحقيقة.برهان سيكولوجي (نفسي):ليس الصليب إلا أداة موت، فكيف افتخر الرسل بموت قائدهم؟ الإجابة: لأن هذا الموت بالصليب قد حدث فعلاً، ولأن نتيجة الصليب كانت بركة عظمى. ونسوق مثلاً للتوضيح: قام قائدٌ بثورة ضد المستعمر فشنق المستعمرون القائد. ولم يهدأ الشعب بعد شنق قائدهم، فقاموا بثورة كبرى ضد المستعمِر نتج عنها هزيمته وخروجه من بلدهم. فقرر أنجال ذلك القائد وأحفاده أن يفتخروا بوالدهم وجدّهم هذا الشجاع، بأن يعلّقوا على صدورهم رسماً للمشنقة، وبأن يسمّوا أنفسهم «عائلة المشنوق». لقد افتخروا بالمشنقة، لا لأنها أداة إعدام، بل لأن والدهم وجدّهم هو الذي مات عليها، وكانت نتيجة موته المفجع حريةً لوطنه.لكن لو افترضنا أن إعدام هذا القائد كان عبثاً، فلا المستعمر خرج، ولا الشعب انتصر، فلن يفتخر أحد بنَسَبه إليه! ولو افترضنا أن المستعمرين جاءوا ليمسكوا ذلك القائد، فأخطأوا وألقوا القبض على غيره، فإن المستعمر سيبقى، والشعب لن يفتخر بهذ القائد، لأنه لم يمت، بل «شُبه» للمستعمرين وأخذوا غيره!فافتخار الرسل والمسيحيين بالصليب يؤكد حقيقتين:أ - لا بد أن المسيح هو فعلاً الذي صُلب. فلو أن الشبيه هو الذي أُلقي القبض عليه لما استطاع أن يُجري معجزة شفاء أذن ملخس التي قطعها سيف بطرس. ولو أن الشبيه هو الذي صُلب لما قام من الموت في اليوم الثالث. ولو أن يهوذا هو الذي صُلب بدلاً من المسيح لما وجدوا جثته بعد انتحاره أسفاً على خيانته لسيده!ب - إن هناك نتائج إيجابية للصليب، أهمها الكفارة التي تستر خطايا البشر. شهادة التواتر:
منذ البداية رفع المسيحيون الصليب على كنائسهم وصدورهم، وعلى تيجان الملوك، وعلى أعلام بعض دولهم، وفي كل مكان ينتمي إليهم حتى على مقابرهم!وقد توفّر عدد لا يُحصى من شهود الصليب والموت والقيامة. فلو تصوّرنا أننا في محكمة يتفق فيها كل الشهود في التعرُّف على القتَلة، ويعترف القتلة بأنهم خططوا للقتل ونفَّذوه. أما المجني عليه فقد سبق وقال إنهم سيقتلونه. ثم توفَّر لنا شيء غريب، وهو أن هذا القتيل (بعد موته وبعثه) شهد بنفسه أن هؤلاء القتَلة هم الذين قتلوه! (وهذا ما حدث مع المسيح المصلوب المُقام) فلا نعود نحتاج لأي دليل آخر على حدوث جريمة القتل. ولن نشك، خصوصاً وأن الذي يشككنا جاءنا بعد حادثة الصليب بعدة مئات من السنين، وهو ليس شاهد عيان، كما أنه لا يملك من البراهين ما يبني عليه إنكار تاريخية الصليب.وهناك برهان آخر نسوقه على صدق حادثة الصليب، وهو أن الذين جذبهم المسيح إليه بموته كانوا أكثر من الذين جذبهم إليه أثناء حياته على أرضنا. ونحن عادة نقول: لو عاش البطل الفلاني أكثر لأنتج أكثر، ولكن موته في ريعان الشباب أوقف إكمال عمله. غير أن الأمر مختلفٌ تماماً مع المسيح، فإن صليبه كان القوة التي جذبت الكثيرين إليه ليتبعوه ويضحّوا بحياتهم شهداء في سبيله. وقد قال المسيح: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ (يقصد طريقة موته مصلوباً) أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا ١٢: ٣٢). وهذا ما حدث.وتؤكد قوانين الإيمان المسيحية منذ بدئها أن المسيح صُلب في عهد بيلاطس البنطي وتألم وقُبر وقام ظافراً. والممارسات المسيحية منذ البداية كالعشاء الرباني والمعمودية كلها تؤكد ذلك، فهما رمزٌ وذكرى لموت المسيح وقيامته.وتغيير يوم العبادة من السبت إلى الأحد يعلن احتفال المسيحيين بقيامة مسيحهم من الموت بعد صلبه يوم الجمعة.٥ - براهين على الصليب من خارج التوراة والإنجيل
وهناك براهين من غير المسيحيين على أن صليب المسيح حقيقة تاريخية، نذكر منها ما يلي:أولاً: شهادة اليهود (الذين صلبوه): والاعتراف سيد الأدلة. القاتل معترف ولا يختلف معه القاضي ولا الشهود. لو أن الصلب لم يحدث لدافع الكهنة اليهود والحكام الرومان عن أنفسهم بأنهم غير مسئولين عن قتله. ولكننا نجد عند اليهود الأدلة التالية:
- جاء في التلمود: وهو أهم كتب اليهود الدينية بعد التوراة: «صُلب يسوع قبل الفصح بيوم واحد» (فصل السنهدرين ص ٤٣ لسنة ١٩٤٣ - طبعة أمستردام).
- فلافيوس يوسيفوس: وهو من أعظم المؤرخين في زمن المسيح، وكان قائداً للقوات اليهودية في الجليل سنة ٦٦م، وكتب تاريخهم في عشرين مجلداً، قال: «كان يسوع الرجل الحكيم، إن كان يحقُّ لي أن أدعوه رجلاً، لأنه عمل أعمالاً عجيبة، وعلَّم تعاليم قبِلها أتباعه بسرور فجذب لنفسه كثيرين من اليهود والوثنيين .. وحُكم عليه بالصلب بناءً على إلحاح قادة شعبنا. ولم يتركه أتباعه، لأنه ظهر لهم حيّاً في اليوم الثالث».
- الحاخام يوحنا بن زكا: وكان تلميذاً لهليل الشهير (صاحب أحد أكبر مدرستين في الفكر اليهودي وقت المسيح) ومن هنا تنبع أهمية شهادته التي تطابقت مع شهادة فلافيوس يوسيفوس السابقة.
- الحاخام العالِم يوسف كلوزمر: كتب في العصر الحديث كتاباً عنوانه «يسوع الناصري» جاء فيه: «إن الأناجيل سجلات صحيحة، وإن يسوع الناصري عاش ومات وفقاً لها». وهي شهادة تتفق مع شهادة العقاد في كتابه «حياة المسيح» (ص ١٢٦).
ثانياً: شهادة المستندات التاريخية الرومانية:
- عثر عالم ألماني على الرسالة التي رفعها بيلاطس البنطي الذي حكم بصلب المسيح، إلى طيباريوس قيصر مُبيّناً له فيها الأسباب والظروف التي دعت إلى ذلك. وأُودعت بمكتبة الفاتيكان، ونُشرت ترجتمها في مجلة Witness Tower Zeiroun في فبراير ١٨٩٢.
- اكتشف الجيش الفرنسي في البندقية سنة ١٢٨٠م صورة الحكم الذي أصدره بيلاطس وحيثيات الحكم على المسيح بالصلب.
- كرنيليوس تاسيتوس: وهو حاكم آسيا الصغرى سنة ١١٢م وكتب يدين نيرون وقال عن المسيح: «إنه قُتل في عهد بيلاطس البنطي حاكم اليهود أثناء سلطنة طيباريوس وأمكن مبدئياً السيطرة على خرافته، ولكنها عادت وانتشرت لا في اليهودية فقط حيث نشأ هذا الشر، بل في كل روما».
ثالثاً - شهادة فلاسفة الوثنيين ومؤرخيهم:
- لوسيان: (وهو مؤرخ يوناني ولد سنة ١٠٠م) تحدث باحتقار عن المسيحية وقال: «مات المسيح في فلسطين لأنه جاء بديانة جديدة للعالم، وقال لأتباعه إنهم إخوة، ورفضوا آلهة اليونان. وعبدوا السوفسطائي المصلوب».
- تاسيتوس: المؤرخ الشهير الذي وُلد سنة ٢٥م) وتقلّد منصب قاضي القضاة، وكتب تاريخ الإمبراطورية الرومانية في ١٦ مجلداً. قال: «لُقّب الذين كان يعذبهم نيرون مسيحيين نسبة لشخص اسمه المسيح، حكم عليه بيلاطس البنطي بالقتل في عهد طيباريوس قيصر».
- كلسوس الفيلسوف الأبيقوري: (ولد سنة ١٤٠م) وكان من ألدّ أعداء المسيحية، أيَّد في كتابه «البحث الحقيقي» صلب المسيح، وقال ساخراً من الغرض من الصليب: «احتمل المسيح آلام الصليب لأجل خير البشرية».
هذه عيّنة من الشهادات لتاريخية صلب المسيح. ولكن لا زالت رواية الأناجيل لأحداث الصلب هي المرجع الأول والأوضح، فهي تعرض القصة في سلاسة ودقة تفصيلية لا تجيء إلا من شاهد عيان. وعندما تقرأ القصة كما رواها البشيرون الأربعة ستجد نفسك مقتنعاً بصحتها. فارجع إلى النص الإنجيلي، لأنه الأساس.