في الأصحاح الأول من رسالته إلى الكورنثيّين، قال الرسول بولس: «لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (كورنثوس الأولى ١: ٢٢ - ٢٤). وقال في الأصحاح الثاني: «وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُوِّ ٱلْكَلاَمِ أَوِ ٱلْحِكْمَةِ مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (كورنثوس الأولى ٢: ١ - ٢).
وإذا تأمّلنا في أقوال الرسل عامّة، نرى أنّ الإنجيل الذي بشّروا به منذ فجر المسيحيّة وقبله الناس وبه خلصوا، إنّما كان الخبر السارّ، الذي لخّصَه بولس بهذه العبارات الصريحة:
«وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (كورنثوس الأولى ١٥: ١ - ٤).
ومع ذلك، فبعد مرور ما يربو على الخمس ماية عام على انتشار هذا الإنجيل في كلّ العالَم، جاء مَن يعترض على هذه الحقيقة. لكأنّه يقول للمسيحيّين: أنتم على خطأ في دينكم!
ولعلّ أصحاب هذا الاعتراض أخذوا فكرتهم عن أهل البدع من اليهود المتنصّرين، الذين جاروا آباءهم بالاعتقاد أنّ المسيح لا يموت. ونحن مدينون جدّاً ليوحنّا البشير الذي ذكر لنا هذا الأمر في إنجيله، إذ سجّلَ لنا قول الفرّيسيّين في حوارهم مع المسيح: «نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ؟» (يوحنّا ١٢: ٣٤).
ويذكر لنا المؤرّخون أنّ ضلالة كانت شائعة عند نصارى الجزيرة العربيّة مفادها أنّ المسيح، وهو القادر أن يتحوّل من صورة إلى صورة، حين جاء أعداؤه لإلقاء القبض عليه، ألقى شبهه على إنسان آخر، فصُلِب بديلاً عنه.
أمّا المسيح فقد ارتفع إلى الذي أرسله، هازئاً بأعدائه.
فالنصّ القرآنيّ عن آخرة المسيح، جاء متّفقاً مع هذه الرواية ومعاكساً لرواية اليهود، إذ يقول: « وَقَوْلِهِمْ (أي اليهود) إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (سورة النساء ٤: ١٥٧ - ١٥٨).
وعلّنا نفهم من رواية أهل البدع الذين التصقوا بالمسيحيّة، أنّ الصليب بالنسبة لهم لم يكن قضيّة تاريخ وعقيدة فداء. بل مسألة رمزيّة كالنجم الذي اهتدى المجوس به إلى مهد طفل المذود في بيت لحم، وكهيئة الحمامة التي نزل بها الروح القدس على المسيح أثناء عماده في نهر الأردنّ. أمّا الخشبة الضخمة التي عُلّق يسوع عليها والتي هي مذبح الفداء، الذي قُدّم عليه حَمَل الله ليرفع خطيّة العالم، فلا أهمّيّة لها عندهم. لكأنّهم يرفضون الحقيقة التي نادى بها رسول الأمم: «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ». لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِنَنَالَ بِٱلإِيمَانِ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ» (غلاطية ٣: ١٣ - ١٤).
ولعلّ أغرب ما يُقال في الاعتراض على الصليب، هو ما جاء في الإنجيل المزوَّر والمنسوب إلى يوحنّا، والذي ألَّفَه أولئك المبدعون «إنّ هذا الصليب المنير، الذي تراه أمامك ليس بصليب الخشب الذي ستراه عند رجوعك إلى الأرض. على ذلك الصليب لم أكن إيّاي الذي تسمعه الآن ولا تراه. لقد ظنّوني مَن لستُ إيّاه، إذ لم أكن حينئذٍ مَن كنت بين الجماهير».
فممّا لا شكّ فيه أنّ الإسلام ورث هذا النفور من الصليب من أولئك المبدعين، الذين كانوا منتشرين في الجزيرة العربيّة التي هي مهد الإسلام. والمؤسف في الأمر، أن يختلف فقهاء الإسلام في موضوع إحلال الشبه محلّ المسيح، وتنطلق عدّة روايات متباينة منها:
أ - أنّ اليهود لمّا صمّموا على قتل عيسى رفعه الله إلى السماء، فخاف رؤساؤهم من انتفاض الشعب عليهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبَّسوا على الناس أنّه عيسى.
ب - أنّ الله ألقى شبه عيسى على إنسان آخر فمات هذا بديلاً عنه. ولهذه الرواية عدّة وجوه:
[list=orderedlist]
[*]دخل تيطاوس اليهوديّ بيتاً، كان المسيح فيه بقصد اعتقاله، فلم يجده. وألقى الله شبه عيسى عليه، فلمّا خرج ظنّوه أنّه عيسى فأخذوه وصلبوه.
[*]أنّ اليهود حين اعتقلوا عيسى، أقاموا عليه حارساً. ولكنّ عيسى رُفِعَ إلى السماء بأعجوبة، وألقى الله شبهه على الحارس فأخِذَ وصُلِبَ وهو يصرخ أنا لست بعيسى.
[*]وُعِدَ أحد أصحاب عيسى بالجنّة فتطوّع بالموت عنه، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرِجَ وصُلِبَ. أمّا عيسى فرُفِعَ إلى السماء.
[*]نافق أحد تابعِي عيسى (أي يهوذا) وجاء مع اليهود ليدلّهم عليه. فلمّا دخل معهم لأخذه ألقى الله عليه شبهه فأخِذ وقُتِل وصُلِبَ.
[/list]
وقد سرد أبو جعفر الطبري في كتابه «جامع البيان» عدّة روايات في هذا الصدد.
الأولى - أنّ بعضهم قال: لمّا أحاطت اليهود بعيسى وبأصحابه أحاطوا به، وهم لا يثبتون في معرفة عيسى عينه. وذلك أنّهم جميعاً حُوِّلوا في صورة عيسى. فأُشكِل الأمر على الذين كانوا يريدون قتلَ عيسى. فخرج إليهم بعض مَن كان في البيت مع عيسى فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.
الثانية - مروية عن ابن حمية، عن يعقوب القمّيّ، عن وهب بن منبّه. قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريّين في بيت وأحاطوا به. فلمّا دخلوا صوّرهم الله كلّهم على صورة عيسى. فقالوا لهم سحرتمونا. لتبرزنَ لنا عيسى، أو لنقتلنّكم جميعاً. فقال عيسى لأصحابه: مَن يشتري نفسه منكم اليوم بالجنّة؟ فقال رجل منهم أنا. فخرج إليهم، فقال أنا عيسى فأخذوه، فقتلوه وصلبوه. فمِن ثمّ شُبّه لهم. وظنّوا أنّهم قتلوا عيسى. ورفع الله عيسى من يوم ذلك.
الثالثة - مروية عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن المفصّل، عن أسباط، عن السديّ، قال إنّ بني اسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريّين في بيت. فقال عيسى لأصحابه: مَن يأخذ صورتي، فيُقتَل وله الجنّة؟ فأخذها رجل منه، وصعد بعيسى إلى السماء. فلمّا خرج الحواريّون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أنّ عيسى عليه السلام قد صعد بهم إلى السماء فجعلوا يعدّون القوم، فيجدون أنّهم ينقصون رجلاً من العدّة، ويرون صورة عيسى فيهم فشكّوا فيه. وعلى ذلك الرجل. وهم يرون أنّه عيسى فصلبوه.
الرابعة - مروية عن ابن حميد، عن سلمة عن ابن إسحاق. قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي أرسَل إلى عيسى رجلاً منهم ليقتله داود. فلمّا أجمعوا لذلك، لم يفزع عبد من عباده بالموت فزعه. ولم يجزع جزعه. وإنّه ليقول عمّا يزعمون: اللهمّ أِن كنتَ صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك، فاصرفها عنّي وحتّى أِن جلده من كرب ذلك، ليتفصّد دماً.
فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه، ليقتلوه، هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى. فلمّا أيقن أنّهم داخلون عليه ألقى شبهه على أحدهم فأمسكوه وصلبوه.
الخامسة - مروية عن سلمة، قال حدّثني رجل كان نصرانيّاً فأسلم، أنّ عيسى حين جاءه من الله إنّي رافعك إليّ، قال: يا معشر الحواريّين أيّكم يحب أن يكون رفيقي في الجنّة، على أن يشبّه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟ فقال سرجس. أنا يا روح الله. قال فاجلس في مجلسي. فجلس فيه ورفع عيسى، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه. فكان هو الذي صلبوه وشُبّه له (مجمع البيان ٦: ١٢ - ١٤).
وجاء في تفسير السنوي الجزء الأوّل عن مالك: من المحتمل أن يكون المسيح، مات حقيقة، وأنّه سيحيا في آخر الزمان، ويقتل الدجّال.
وجاء في تفسير ابن كثير، عن إدريس: قال: مات المسيح ثلاثة أيّام ثمّ بعثه الله ورفعه.
وقال إخوان الصفا: إنّ المسيح مات وصُلِبَ وقام وتراءى لخاصّته بعد ذلك (إخوان الصفا جزء ٤، ص٣). وكذلك اختلفوا في اسم الشخص الذي صُلِب. ففريق قال إنّه يهوذا، وفريق قال إنّه تيطاوس، وفريق قال إنّه سرجس، وفريق قال إنّه أحد الحواريّين وكذلك مفسّرو القرآن، إلاّ قليلاً منهم لم يكونوا أكثر توفيقاً في رواياتهم. فقد قال الجلالان في تفسير مقالة القرآن: «ولكن شُبّه له» المقتول وهو صاحبهم بعيسى، أي ألقى الله عليه شبه عيسى فظنّوه إيّاه فقتلوه وصلبوه. «وأنّ الذين اختلفوا فيه (أي عيسى) لفي شكّ منه» أي مَن قتله. لأنّ بعضهم لمّا رأوا المقتول قالوا، الوجه وجه عيسى أمّا الجسد فليس بجسده، وقال بعض آخر أنّه، هو هو (تفسير الجلالين ص ١٣٥).
وقال البيضاوي: روي أن رهطاً من اليهود سبُّوا عيسى وأمّه، فدعى عليهم فمُسخوا قردة وخنازير. فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنّه يرفعه إلى السماء. فقال لأصحابه: أيّكم يرضى بأَن يُلقى عليه شبهي فيُقتَل ويُصلَب ويدخل الجنّة. فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقُتل وصُلِب.
أمّا الزمخشري، فقد قال: شُبّه لهم أي خُيِّلَ إليهم، أو توهّموا أو أوهموا أنّهم قتلوه وصلبوه، فهو ميت لا حيّ، بل هو حيّ لأنّ الله رفعه إليه.
ولا مراء في أنّ هذا التباين في الروايات، نجم عن عدم وجود نصّ صريح في القرآن، حول نهاية أيّام جسد المسيح على الأرض. وهذا التباين فتح باب الإشكال والتضارب في الآراء. ولهذا لم يكن بدّ لعالمٍ نزيه كالإمام العلاّمة فخر الدين الرازي، أن يفنّد قصّة الشبه تفنيداً محكماً. ففي تفسيره العدد ٥٥ من سورة آل عمران «يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ» عالج مسألة الشبه بكلّ موضوعيّة إذ قال:
من مباحث هذه الآية موضع مشكل، وهو أنّ نصّ القرآن دلّ على أنّه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم» والأخبار أيضاً واردة بذلك، إلاّ أنّ الروايات اختلفت. فتارة يروي أنّ الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلّوا اليهود على مكانه حتّى قتلوه وصلبوه، وتارة يروي أنّه رغب بعض خواصّ أصحابه في أن يلقي شبهه حتّى يُقتل مكانه. وبالجملة فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات:
الإشكال الأول - أنّا لو جوّزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة. فإنّي إذا رأيت ولدي، ثمّ رأيته ثانياً فحينئذٍ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً، ليس بولدي، بل هو إنسان أُلقي شبهه عليه. وحينئذٍ يرتفع الأمان على المحسوسات. وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمّداً، يأمرهم وينهاهم، وجب أن لا يعرفوا أنّه محمّد، لاحتمال أنّه ألقى شبهه على غيره. وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع. وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة، على أن يكون المخبر الأول، إنّما أخبر عن المحسوس. فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات، كان سقوط خبر التواتر أولى. وبالجملة ففتح هذا الباب، أوّله سفسطة، وآخره أبطال النبّوات بالكلّيّة.
الإشكال الثاني - هو أنّ الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام، بأَن يكون معه في أكثر الأحوال. هكذا قال المفسّرون في تفسير قوله «إذ أيّدتُك بروح القدس» ثمّ أنّ طرف جناح واحد من أجنحة جبريل، كان يكفي العالم من البشر. فكيف لم يكفِ في منع أولئك اليهودِ عنه؟ وأيضاً (المسيح) لمّا كان قادراً على إحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود، الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسقامهم، وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتّى يصيروا عاجزين عن التعرّض له؟
الإشكال الثالث - أنّه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء. فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره، إلاّ إلقاء مسكين في القتل، من غير فائدة إليه؟
الإشكال الرابع - أنّه ألقى شبهه على غيره، ثمّ أنّه رُفِعَ بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنّه عيسى، مع أنّه ما كان عيسى. فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله.
الإشكال الخامس - أنّ النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدّة محبّتهم للمسيح وغلّوهم في أمره. أخبروا أنّهم شاهدوه مقتولاً ومصلوباً. فلو أنكرنا ذلك، كان طعناً في التواتر. والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمّد، ونبوّة عيسى، بل في وجودهما، ووجود سائر الأنبياء، وكلّ ذلك باطل.
الإشكال السادس - أنّه ثبت بالتواتر أنّ المصلوب بقي حيّاً زماناً طويلاً. فلو لم يكن ذلك عيسى، بل كان غيره، لأظهر الجزع، ولَقال: إنّي لست بعيسى بل إنّما أنا غيره. ولبالغ في تعريف هذا المعنى. ولو ذُكِر ذلك، لاشتهر عند الخلق هذا المعنى. فلمّا لم يوجد شيء من هذا، علمنا أنّ الأمر ليس على ما ذكرتم. (التفسير الكبير ٧: ٧٠ - ٧١).
ولكن إن كان القرآن في مقالته ينفي صلب المسيح، فهو لم ينفِ موته قبل ارتفاعه إلى السماء. وحين نتأمّل في آخرة المسيح من خلال القرآن نجد ثلاثة نصوص تؤكّد موته بكلمة وفاة أو موت ونصّين يؤكّدان موته قتلاً:
[list=orderedlist]
[*]«وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً» (سورة مريم ١٩: ٣٣). ففي هذا النصّ إعتراف صريح بأنّ المسيح تجسّد ومات وبُعِث، وذلك على شكل نبوّة مرتكزة على معجزة. وهذا يوافق نصّ الإنجيل روحاً وحرفاً.
[*]«إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (سورة آل عمران ٣: ٥٥).
[/list]
[list=orderedlist]
[*]«وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» (سورة المائدة ٥: ١١٦ - ١١٧).
[*]«وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (سورة البقرة ٢: ٨٧). فكلمة تقتلون هنا لا لبس فيها، ولا يصحّ تفسيرها بغير القتل. ولمّا كان القرآن لم يذكر كيف قُتِل المسيح، فالإنجيل هو المرجع الأصليّ أوّلاً وآخراً في هذا الموضوع.
[/list]
[list=orderedlist]
[*]«ٱلَّذِينَ قَالُوا (أي اليهود) إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (سورة آل عمران ٣: ١٨٣).
[/list]
وإذا ما تقصّينا الأمر من روايات القرآن نرى أنّ الرسول الوحيد الذي أتى بالقربان هو المسيح، إذ يقول: «قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱلَّلهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَاِئدَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ» (سورة المائدة ٥: ١١٤).
والآن لنرجع إلى مقالة سورة النساء «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم» وذلك في محاولة لإخراج المتشبّثين بحرفيّة كلماتها من سجن الحرف إلى رحاب حرّيّة الروح، ليس لأنّنا نحتاج إلى غير نصوص الإنجيل لإبراز الحقّ، وإنّما عملاً بمبدأ الكياسة حيال شعور الغير. وهذه المحاولة تستلزمنا أن نكشف عن قصد رؤساء اليهود من قتل المسيح.
هذا الأمر بسطه لنا يوحنّا البشير في انجيله، إذ يقول: «فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هٰكَذَا يُؤْمِنُ ٱلْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي ٱلرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا. فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ: أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا» (الإنجيل بحسب يوحنّا ١١: ٤٧ - ٥١).
والواقع أنّهم حين علّقوه على الصليب، ومات وأنزِل في القبر وخُتِم باب قبره عليه بأختام بيلاطس، فرحوا جدّاً وظنّوا أنّهم تخلّصوا نهائيّاً، من تعليمه وآياته. وأملوا أنّ موته القاسي يكفي لردع أتباعه عن القيام بأي نشاط. ولكنّ رياح المشيئة الإلهيّة أتت بما لا تشتهي سفن إرادة اليهود المستكبرين، لأنّ موته الكفّاريّ على الصليب، سرعان ما جذب إليه الألوف والربوات. فتمّ ما تنبّأ به له المجد: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (الإنجيل بحسب يوحنّا ١٢: ٣٢).
وكذلك العجائب ظلّت تجري على أيدي رسله. وفقاً للسلطان الذي أعطاهم إيّاه. ويخبرنا الكتاب المقدَّس «وَكَانَ ٱللّٰهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ ٱلْمُعْتَادَةِ، حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى ٱلْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ ٱلأَمْرَاضُ، وَتَخْرُجُ ٱلأَرْوَاحُ ٱلشِّرِّيرَةُ مِنْهُمْ» (أعمال ١٩: ١٢).
ولهذا يمكننا أن نقبل نصّ القرآن شهادة عليهم «وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلاّ اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً» لأنّه قام في اليوم الثالث. وبعد أربعين يوماً ظهر خلالها لتلاميذه، صعد إلى السماء وجلس عن يمين العظمة وفقاً للقول «إنّي متوفّيك ورافعك إليّ».