البينة التاريخية
(٩) إذا التفتنا إلى التاريخ، علمنا منه أنه عاش على هذه الأرض إنسان، كانت حياته مظهراً جلياً تاماً للعنصرين، اللذين يتألف منهما صلاح البشر الكامل. وهما الارتباط الدائم بالله والمحبة المنقطعة النظير لبني جنسه. لقد جال يعظ ويبشر، ويصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. وأطلع الناس على رأي جديد في الله، قائلاً إنه عز وجل يهتم بكل إنسان على حدة، كما يهتم الأب بأولاده، وأن الله يستقبل كل خاطئ تائب، مرحّباً به كما يرحّب الأب بابن تائه ضال عائد إلى أحضانه.
(١٠) و (١١) وعلاوة على ما أبداه من تعاليم المحبة وأعمال الرحمة، دعا إليه جماعة من التلاميذ ليقيموا معه ويتعلموا كلمات فمه وقوة مثاله. فكانوا يوماً بعد يوم، يزدادون نمواً في معرفتهم له وتعمقاً في الوقوف على كنه أفكاره، وتضلعاً من فهم معنى أمثاله الخفية. فارتشفوا من زلال روحه، وتعلموا ثقته وشاركوه في اتصاله بالله. ولكن العالم الشرير اضطرب خوفاً منه. وأولئك الذين أغمضوا عيونهم عن الحق، واتكلوا على برهم الذاتي. ثاروا عليه وساقوه إلى المحاكمة، واتهموه بالتجديف وكسر الناموس، وتمكنوا من إصدار الحكم عليه بالموت. فماذا فعل؟ أبى الدفاع عن نفسه، على شدة ثقته بأنه لم يكن عليه سوى إصدار أمره، فيأتي اثنا عشر جيشاً من الملائكة لإبادة أعدائه. ولكنه لم يشأ أن يستعمل شيئاً مما كان لديه من وسائل النجاة. ولكي يعلن جلياً معنى المحبة - محبة الله - أسلم نفسه إلى النهاية. ولكي يرسخ في عقول الناس شدة هول الخطية وفرط فظاعتها في عيني الله، أذن لها في تعذيب إنسانه الكامل، زهرة الإنسانية نفسها، المنزّه عن كل عيب. ولكي يغلب الشر، تحمل كل غاراته وغزواته حتى الموت، لكي يشارك الإنسان في جميع منازعاته ويمهد له سبيل الغلبة والظفر. وهكذا انتصر.
(١٢) ففي اليوم الثالث قام. وكان قد قال «لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا ١٠: ١٧ و١٨) وهكذا فعل. فكمل العمل وتم الإعلان الإلهي، إذ بذلت المحبة إلى أقصى درجة منها، وقوة الشر على أشدها كوفحت وغُلبت. وتمت نصرة الخير على الشر.
(١٣) وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة في تلاميذه، الذين عرفوه حق المعرفة، اقتناعاً تأصل ونما في أثناء معاشرتهم له. لكنه أزهر عندما ظهر لهم بعد قيامته، أنه لم يكن إنساناً ولا كائناً أرقى درجة من الإنسان فقط، بل رأوا فيه صفة الله نفسه. وأنه ادعى أموراً من التجديف أن يدعيها أحد غير الله. وقد ثبت كل ما ادعاه ثبوتاً حقيقياً. وأنه مستحق سجودهم له، وأنه بالحقيقة كان الله عائشاً عيشة إنسان، وفي الوقت نفسه يسود الكون من على عرشه في السماء.
(١٤) وهذا الاختبار لم ينحصر في تلاميذ الرب يسوع، الذين اتصلوا به مباشرة، بل شاع وانتشر على قدم السرعة بين كثيرين غيرهم. لأن التلاميذ بشروا به، مؤيدين بقوة روحه، الذي أرسله ليقوم مقامه.
ثم إن الاقتناع بأن يسوع الناصري، كان إلهاً وإنساناً معاً، لم ينته بموت الذين عرفوه في الجسد، ولماذا؟ لأنه لم يبن على بدعة دينية، ولا على كرازة أو تعليم، بل على اختبار شخصي شعر به المسيحيون في كل العصور، وعلى اقتناع تام بأن يسوع لا يزال حياً، ولا ينفك يرتبط ارتباطاً شخصياً بجميع الذين يطلبونه. وهذا الارتباط لا يقف حاجزاً بينهم وبين الله، بل هو بالحقيقة ارتباط بالله نفسه.
(١٥) وهذا الأقنوم، يسوع المسيح ليس كائناً جامداً غير كامل. بل هو اليوم مالئ العالم كله - هنا وهناك وهنالك، في كل مكان وجهة، يضع يده على الإنسان. ويقول له: «اتبعني» فيخاف الإنسان ويجيبه: إن خدمتك يا سيدي صعبة المراس، وثقيلة الحمل، فلا أستطيعها. لا أقدر أن أقتفي خطواتك، دعني وشأني يا سيد، لأني إنسان خاطئ. فيقول الرب يسوع: استودعني حياتك اجعلها في حفظي. اتكل عليّ وآمن بي. «تكفيك نعمتي» فيلبي الإنسان دعوته، ويصير من أتباعه. واليوم ما زال يسوع في الطريق وينادي: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ... اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ...» (متّى ١١: ٢٨ وإشعياء ٤٥: ٢٢) يسمع النداء كثيرون ويقبلون إليه منجذبين بنعمة شخصيته الإلهية. واليوم هو معروف في إفريقيا السوداء. حيث ينضم الناس أفواجاً إلى جماعته، ويجدون النجاة من سلطة الأرواح الشريرة وسطوة السحرة والعرافين. وفي كل أمة وشعب وطبقة أناس غيّرهم يسوع. وهم يحيون حياة تختلف عما كانت عليه قبلاً، حياة بدأت بالإثم وشهوة الجسد وتعظّم المعيشة. والآن يعيشون كما يحق لإنجيله، في البر وقداسة الحق. وإذا سألتهم عن منشأ هذا التغيير العظيم فيهم، أجابوك: هذا كله حصل بفضل معرفة يسوع المسيح ربنا.
إذن في استطاعتنا القول بملء الثقة إن حياة يسوع الناصري، توّجت عمل الله في الخليقة وبلغت به أوج السمو والكمال. وفيه وصل هذا العمل إلى درجة الإتقان التام. وبه بلغت الحياة والروح قصد الله، وبه أيضاً تأصل كل الذين قبلوه في المحبة، وامتلأوا إلى كل ملء الله. وبتعبير آخر أن النفس البشرية المؤمنة به صارت إلى غاية وجودها العظمى، التي هي الاتحاد بالله نفسه ورفع الخليقة إلى الله خالقها.
(١٦) هذا هو حكم التاريخ وقراره. ولكن من حيث يسوع المسيح، لا يراد بالإنسان الكامل مجرد خلاصة الكون، ومرآة الجوهر الإلهي، والصلة بين الله وخليقته فقط. بل إنما هو الإنسان الكامل، لأنه في الوقت نفسه الإله الكامل، لأنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي ٢: ٩). ولأنه ليس حلقة الاتصال، بل هو اتحاد حقيقي. وليس مرآة الجوهر الإلهي، يتألق ساطعاً بواسطة حياة إنسانية. بل «هُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عبرانيين ١: ٣) هو «ٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا ١: ١ - ٣). فهو والحالة هذه مستحق أن يأخذ القوة والغنى والحكمة والقدرة والكرامة والمجد والبركة، آمين.