السؤال الثاني عن الثالوث الأقدس
على أي شيء تستندون في دعوى الثالوث، وما معنى الأقنوم في المسيحية؟
ا.م. أسيوط
علينا أن نستعين بتاريخ الكنيسة لنرى كيف نشأ اعتقاد المسيحيين الأوائل بالثالوث الأقدس، وكيف اختلف فيه بعض مفكري الكنيسة، فقدموا آراءهم للمجامع العامة للبحث فيها، للإجماع عليها أو رفضها. فنشأت الفرق المسيحية، إذ لم يسلّم الكل بالرأي الذي حصل على الإجماع. وقد اضمحلَّت بعض تلك الفِرق وزالت بعد مدة ليست طويلة كالأفكار الأريوسية، ولم يزل بعض آخر باقياً، كالكنائس النسطورية.
ولعل الحماس الديني كان قوياً حتى اتخذ شكل التعصب الطائفي، حتى أن الذين لم تُقبل آراؤهم من إجماع الكنيسة، حُسبوا ليس فقط مبتدعين، بل كفرة لا علاقة لهم مع المسيح.
وبحسب ما لدينا من السجلات المسيحية لم تكن الكنيسة الأولى تفتكر كثيراً في عقيدة الثالوث. ويظهر من تاريخ الكنيسة في ما بعد أن تلك العقيدة هي كقمة البناء، لا يصل إليها إلا من بدأ من الأساس. فمن وثق في المسيح ثقة الإيمان. وقبل كلام المسيح عن نفسه وعن علاقته بالآب، كما هو مدوَّن في الإنجيل، لا يسعه إلا أن يصل إلى الإقرار بالثالوث، عندما يفكر في طبيعة الله.
ولهذا يأسف المسيحي إذا رأى من يأبى التعرف بالإنجيل أو بالمسيحية، إلا بعد ما يكون قد أدرك سر الثالوث، غير عالم أن الطريق الصحيح لإدراكه هو التعرف بالمسيح ومبادئه وقوته الروحية، وتأثيره في الحياة الداخلية. فإذا تمادى الإنسان في هذا الطريق لن يجد في عقيدة الثالوث ما يحول دون قبوله المسيح، لأنه يثق بمغفرة خطاياه، ويختبر قوة المسيح في حياته الأخلاقية. وقد يصل إلى هذه النتيجة دون أن يفكر في سر طبيعة المسيح، أو يحمّل نفسه عناء السؤال كيف يملك قوة داخلية حية كهذه. ولكنه يجد حلاً لأي إشكال محتمل في إعلانات الكتاب المقدس ابتداءً من إشعياء ٩: ٦ حيث يقول النبي الموحَى إليه «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» . ويمكنه الاستشهاد بقول المسيح «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ... اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ... أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيّ» (يوحنا ١٠: ٣٠ و١٤: ٩-١١).
قد يصعب هذا الفكر على الأخ المسلم، ولكنه يجد في القرآن نصوصاً تنسب للمسيح أسراراً امتاز بها عن غيره من الأنبياء والرسل، كالقول إنه «كَلِمَةُ ٱللَّهِ وَرَوُحٌ مِنْهُ» (سورة النساء ٤: ١٧١). «وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ» (سورة آل عمران ٣: ٤٥) «تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً َتُبْرِئُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوْتَى بِإِذْنِي» (سورة المائدة ٥: ١١٠).
أما الإجماع المسيحي منذ القديم فقد اصطلح أن يعبِّر عن سر طبيعة المسيح بكلمة «أقنوم» وهي كلمة يونانية معناها «شخص» من أقانيم اللاهوت الثلاثة في جوهر الإله الواحد. ونحن المسيحيين لا نرى الرأي القائل إن البحث في ذات الله كفر. مع العلم أننا من الوجهة الأخرى لا نعتقد بإمكان معرفة حقيقة الذات الإلهية، بل نقرّ أن أفكار الله أعلى من أفكارنا، وطرقه أعلى من طرقنا، فإن ذات الله وطبيعته الحقيقية أسمى من أن يستطيع الإنسان أن يعبّر عنهما تعبيراً صحيحاً بواسطة الاصطلاحات البشرية الناقصة العاجزة.
ونحن لا ندعي المقدرة على إثبات عقيدة الثالوث بأدلة علمية أو طبيعية، كما أنه لا يمكن إثبات وجود الله نفسه بأدلة منطقية أو علمية. ثم إن العديد من العلماء والفلاسفة يقرون بوجود الله مع أنه ليس من شأنهم ولا في إمكانهم إثبات ذلك. هكذا الأمر مع عقيدة الثالوث المستخرجة من الكتب المقدسة، فقد قبلتها الكنيسة دون أن يخطر ببالها أن تثبتها ببراهين منطقية.
وعقيدة الثالوث كغيرها من العقائد المسيحية، ليست لقوم يحيدون عن الخطة التي انتهجها تلاميذ المسيح أولاً، الذين قبلوها ليس عقلياً بل بالاختبار. وكل إنسان يقبلها عقلياً بدون الاختبار الشخصي الروحي لا يستفيد منها، لأن المسيح نفسه قال «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى ٧: ٢١) أي ليس من اعتقد عقائد الدين فحسب، بل الذي صار الدين في حياته حقيقة فعلية.
وأنا لا أتعجب إذا توقف المسلم أو غيره عن قبول عقيدة الثالوث، طالما أنه لم يعرف بعد المسيح كما هو في الإنجيل ويختبره في حياته، لأن القرآن لا يقول بالثالوث بل يرفضه بقوله «وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ ٱنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» (سورة النساء ٤: ١٧١). والواقع أن هذا القول ينصبُّ على رفض آراء متطرفة غير أصيلة في تعليم المسيحية الأساسي. الذي يظهر أن الإسلام لم يتعرف به تماماً كما تعرّف بآراء المتطرفين من النصارى، بدليل قول القرآن «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ؟» (سورة المائدة ٥: ١١٦). فهذا القول ينصبّ على رفض رأي متطرف لم تعتقده الكنيسة المسيحية الصحيحة في أي عصر من عصورها.
إني أتمنى أن يميل المسلمون الذين يبحثون عن الحق إلى درس تاريخ الكنيسة المسيحية للوقوف على وجهات نظر المسيحيين حول الثالوث، وعندئذ لا يلبثون أن يروا أن هذه العقيدة ليست قائمة على ظنون، بل على ما جاء في أقوال الكتاب المقدس نفسه عن سر المسيح وعلاقته بالآب.
ولو آثر الأخ المسلم دراسة أسفار العهد الجديد بالدقة والإخلاص، لسهُل البحث بين المخلصين من مسيحيين ومسلمين، ولعرف المسلمون أن عقيدة الثالوث هي تفسير لما تكلم عنه الإنجيل بعبارات بسيطة، كما في قول المسيح «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى ٢٨: ١٨-٢٠)... «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ» (٢كورنثوس ١٣: ١٤).
السؤال الثالث عن ألوهية المسيح
جاء في قانون الإيمان أن المسيح إله حق من إله حق. فإن كان إلهاً، فكيف قدر إبليس أن يرفعه إلى الجبل ويُريه ممالك الأرض، ويعده أن يعطيه إياها إذا سجد له. فكيف يجرب إبليس إلهاً هو المسيح؟
س. م. القاهرة
كان عليك يا صديقي أن تكمل ما قرأته من قانون الإيمان بالعبارات التالية «الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء، وصار إنساناً».
وعلى ذلك لا يكون السؤال كيف يجرب إبليس الله، بل كيف يجرب شخصاً كان إنساناً، وكان الله في ذات الوقت متجسداً فيه. فليست المشكلة هي ما قلته، فإن المسيحيين لم يقولوا إن المسيح تجرَّب كإله، إنما تجرب كإنسان، وصارع التجربة كما يصارعها أي إنسان. وليس خطية أن يتجرب الإنسان. وإنما الخطية أن يستسلم الإنسان للتجربة وينهزم أمامها. والمسيح دخل التجربة، بعد أن أخلى نفسه مختاراً من استخدام قوات اللاهوت، ترك لنا مثالاً للغلبة على تجارب الحياة. وقد قيل عنه في كتب الوحي «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّة... لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ» (عبرانيين ٤: ١٥ و٢: ١٨). وفي هذه التجربة نرى نحن المسيحيين حلاً لمشكلة طالما تصدَّت للناس، وهي أن السمو الروحي تعترضه تجارب شديدة. ولكن التجارب ليست دليلاً على أن الله قد تخلّى عن الإنسان. العكس هو الصحيح، فقد قال الرسول يعقوب «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب ١: ٢-٤).
أما المشكلة الحقيقية فلم تبيّنها، وهي ليست مما يمكن حله تماماً طالما نحن على هذه الأرض، لأنها تنطوي على فهم اتحاد الشخصية في كائن هو إله وإنسان. وهنا اسمح لي أن ألفت انتباهك إلى ما يقوم به علماء النفس منذ مئات السنين من أبحاث لدرس طبيعة الشخصية البشرية، دون أن يعرفوا إلا اليسير. فكم بالحري لا نستطيع أن نفهم الشخصية الإلهية، إلا بقدر ما أعلنه لنا الله غير المحدود عن ذاته بمصطلحات الفكر البشري واللغة البشرية. كان رسول الجهاد العظيم بولس من أعظم مفكري عصره، وقد أوُحي إليه فكتب لنا أشياء مجيدة جداً عن الرب يسوع. ولكنه مع ذلك قال «ٱلآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ ٱلْمَعْرِفَةِ» (١كورنثوس ١٣: ١٢). وليس في وسعنا أن نحيط بطبيعة شخص اتحد فيه العنصر الإلهي والبشري. وقبلنا تأمل إشعياء النبي في شخصه، وإذ لم يستطع أن يحلل شخصيته قال «ويُدعى اسمه عجيباً» .
وأنت نفسك يا صديقي الكريم، يجتمع فيك عنصر النفس العاقلة المفكرة وعنصر الجسد البشري، وهذا الاتحاد بين النفس والجسد ما زال سراً لا يعرف أحد كيف يبدأ ولا كيف يستمر ويعمل. ونحن ندرك أن هذا الاتحاد لم يحصل اعتباطاً، بل هو تناسق تام تتعاون فيه كل العناصر. وحياتك الجسدية لا تبطل ولا تنسخ باتحاد حياة الروح معها. فهل تستطيع أن تعطي بياناً وافياً عن سر هذا الاتحاد العجيب بين الجسد والروح في شخصك؟
هكذا نحن الذين لم تتوفر لدينا إلا معرفة محدودة عن الله، أعلنها لنا بمصطلحات تدريها أفهامنا المحدودة! إننا لن نقدر طالما نحن على الأرض أن ندرك سرائر الله، ولكن تعزّينا كلمة قالها الرسول بولس مسوقاً بالروح القدس «لٰكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ» (١كورنثوس ١٣: ١٢). وبانتظار ذلك نكتفي بما أفصحت عنه الكتب المقدسة التي بين أيدينا عن المسيح، الذي نرى فيه هذا الاتحاد بين العنصرين الإلهي والبشري، الاتحاد الذي يرينا المسيح إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً. فهو اتحاد لم تتعطل به إحدى الطبيعتين، ولم تُنقض أيّهُما.
فكإنسان وُلد تحت الناموس، وكطفل بشري نما، وكصبي بشري جلس عند قدمي المعلمين يسمعهم ويسألهم، وكإنسان جاز اختبار التجربة. ولكنه كإله انتهر عناصر الطبيعة، وأسكت البحر الهائج، وأقام الموتى، وغفر الخطايا، وطهر البرص، وأعطى كل الذين قبلوه «سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا ١: ١٢).
أنا لا أستغرب حيرتك أمام هذا الأمر، ولا أستنكر تساؤلك، كيف يكون المسيح إلهاً ويُجرَّب؟ ولكن قبل أن أختم جوابي هذا أرى لزاماً عليَّ أن أحيطك علماً بوظيفة ربنا يسوع الكهنوتية. فالكتاب المقدس يعلمنا أنه رئيس كهنة. وإنها لتعزية كبرى في وسط تجارب الطريق، أن نعلم أن لنا رئيس كهنة عظيماً رحيماً، نستطيع أن نلجأ إليه في وقت الضيق. وإنه لأمر مبارك أن نعلم أنه ليست هناك ذرة من الاختبارات التي نمرّ فيها تصغر أو تدقّ عن قوة ملاحظة رئيس كهنتنا العظيم. وليس هناك تجربة نخجل أن نتحدث عنها أمام الناس، لا يمكننا أن نهمس بها في أذن يسوع المبارك. لقد تجرَّب في كل شيء بلا خطية، وهذا أهّله أن يكون رئيس كهنة رحيماً، يتلقّى اعترافنا ويرسل إلينا عوناً من قدسه. لقد اجتاز - بالفعل - تجاربنا واختباراتنا، فهو إذن ليس فقط له عِلم إلهي بأحوالنا وضعفاتنا وحاجاتنا وأحزاننا، بل قد اختبر هذه الأحوال والحاجات والأحزان. إنه ملمٌّ بالمعنى الكامل لظروفنا، وبطريقة تفوق بما لا يُقاس اختبار أكبر القديسين نضوجاً، لأنه اختبرها دون أن يرتكب الخطية التي تبّلد مشاعرنا.
للموضوع بقية