٥ - الآب أعطى الابن
نقرأ في إنجيل يوحنا الكلمات: «لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذٰلِكَ أَعْطَى ٱلابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ» (يو ٥: ٢٦).
وهنا يقول أحد المعترضين: انظر.. إن الآب هو الذي أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته، وبما أن المعطي هو الآب والمعطَى هو الابن، لذا لا بد أن يكون الآب خالقاً للابن، وواهباً إياه الحياة، وعلى هذا فلا مساواة بين الآب والابن.
ويبدو هذا الاعتراض وجيهأً أمام النظرة السطحية، ولكنه يدل على جهل بالكتاب المقدس وقوانين تفسيره. ففي الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا نقرأ عن المسيح «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ» (يو ١: ٤). وهذه الكلمات بارتباطها بما سبقها تعلن أن الحياة كانت في المسيح منذ الأزل.
إذاً ما معنى الكلمات: «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته».
هنا لا بد أن نعود لقوانين التفسير الصحيح فنربط الآية بالقرينة، ثم بالأصحاح كله، والسفر كله.
وأول ما نراه في الآية ذاتها أن هناك مساواة بين الآب والابن فالآب له «حياة في ذاته» والابن له «حياة في ذاته» ثم إذ نبدأ في قراءة الأصحاح نرى أن المسيح يقول لليهود: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو ٥: ١٧).
وقد فهم اليهود من هذا القول أن المسيح يعادل نفسه بالله «فَمِنْ أَجْلِ هٰذَا كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يو ٥: ١٨) وإذ نستمر في قراءة الأصحاح نرى فيه.
- أن المسيح له نفس قدرة الآب في إحياء من يشاء (يو ٥: ٢١).
- أن المسيح له نفس الكرامة التي للآب (يو ٥: ٢٢ و٢٣).
- أن المسيح له القدرة على إقامة الأموات بالخطايا (يو ٥: ٢٥).
- أن المسيح سيقيم الأموات من قبورهم (يو ٢٥: ٢٨ و٢٩).
ولكننا نرى فيه أيضاً أن الآب قد «أعطى كل الدينونة للابن. وأعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته».
ونسأل بأي اعتبار أعطى الآب «كل الدينونة للابن» وأعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته؟ فنجد الجواب في كلمات المسيح «وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يو ٥: ٢٧).
فعطايا الآب للابن ليست في اعتباره «الأزلي» بل في اعتباره الزمني حين «أخذ صورة عبد وصار في شبه الناس ووجد في الهيئة كإنسان» فالمسيح في اعتباره الأزلي هو «ابن الله» ولكنه في اعتباره الزمني «ابن الإنسان»، وفي هذا الاعتبار ميزه الآب عن البشر جميعاً بأن أعطاه حياة في ذاته، معلناً لنا بهذه الكلمات أن «ابن الإنسان» هو ذاته «ابن الله» وأنه في إنسانيته «له حياة في ذاته» وهذا ما أوضحه المسيح بكلماته: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يو ١٠: ١٧ و١٨). وما أوضحه أيضاً حين قال لليهود «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يو ٢: ١٩ - ٢١). ولو لم يكن له حياة في ذاته ما استطاع أن يقول هذه الكلمات.. فالإعطاء المذكور في آيتنا، يعني إظهار حياة الله الذاتية في الإنسان يسوع المسيح عندما تجسد في الزمان.