من هم المجوس ؟ ولماذا ظهر لهم النجم
من هم المجوس ؟ ولماذا ظهر لهم النجم ؟ وكيف فاقوا اليهود ؟ هل كان النجم نجماً عادياً ؟ أم كان قوة سمائية بهيئة نجم ؟ ما هي الرموز التي تحملها قصة المجوس، وعلاقتها بالأمم واليهود ؟ يجيب القديس يوحنا ذهبي الفم فيقول : إن الحاجة ماسة بنا يا أخوتي إلي سهر طويل وإلي صلوات كثيرة ليمكننا أن نجيب علي هذه الأسئلة، وأن نعرف من هم هؤلاء المجوس ؟ ومن أين جاءوا ؟ وكيف كان مجيئهم ؟ وما هو النجم ؟
ولنبدأ أولاً بالحديث عن النجم. ذلك لأن الشيطان ألهم أعداء الحق أن يقولوا " ها أنه لما ولد المسيح ظهر نجمه : أليست هذه علامة تدل علي أن صناعة التنجيم حقيقية ؟ فإن كان هو قد ولد بهذه الطريقة، فلماذا أبطل التنجيم والطالع والسحر وأبكم الشياطين ؟!
ما طبيعة ذلك النجم
فلنفحص إذن ماذا كان ذلك النجم : هل كان واحداً من النجوم الكثيرة ؟ أم كان غريباً عنها من طبيعة غير طبيعتها ؟ أم أن الناظر إليه فقط كان يحسبه نجماً ؟ إننا إن عرفنا الإجابة عن هذه الأسئلة، فسنعرف الأمور الأخري بأسهل السبل. لم يكن هذا النجم واحداً من النجوم الكثيرة، والأليق أن نقول - علي حسب ظني - إنه لم يكن نجماً - لكنه كان قوة من القوات غير المرئية نقلت شكلها إلي هذا المنظر.
والأدلة علي ذلك واضحة :
أولاً - من مسيره : لأنه لا يوجد نجم يمكن أن يسير بتلك الطريقة. فإن ذكرت النجوم الأخري لوجدت أن حركتها من الغرب إلي الشرق. أما هذا النجم فقد إندفع في مسيره من الشرق إلي الغرب لأنه هكذا يكون الإتجاه من بلاد فارس إلي فلسطين.
ثانياً - من جة موعد ظهوره : لأنه ما كان يظهر في الليل، بل في النهار إذا أشرقت الشمس. وليس هذا الظهور لقوة نجم ولا لقوة القمر، ولا لتلك الكواكب كلها التي تستتر وتغيب إذا ظهر شعاع الشمس. أما هذا النجم فبإفراط لمعانه قد غلب أشعة الشمس، وكان أبين ظهوراً منها وأسطع لمعاناً.
ثالثاً - تتضح تلك الحقيقة أيضاً من أنه كان يظهر حيناً، ويستتر حيناً آخر. لأنه ظهر مرشداً إياهم إلي طريق فلسطين. ولما صاروا في أورشليم ستر ذاته. ولما تركوا هيرودس بعد سؤاله إياهم، وإعتزموا المسير إلي بيت لحم، عاد النجم فظهر لهم ثانية. وهذا الظهور والإختفاء ليس هو من حركة نجم عادي، ولكنه من قوة أتم قياساً من غيرها. لأنه لم يسر في طريق خاص. لكنه كان إذا إستدعي الأمر أن يسيروا سار، ومتي إحتاجوا إلي أن يقفوا وقف، مدبراً كافة أحوال مسيرهم بما يوافقهم. كان نظير عمود الغمام في قيادته لعسكر اليهود. لما دخلوا أورشليم إحتجب النجم عنهم، حتي إذا ما فقدوا مرشدهم، إضطروا أن يسألوا اليهود، فيصير الأمر مشهوراً ومعروفاً للكل... وهكذا كان الظهور والإختفاء يحمل تدبيراً معيناً له حكمته.
رابعاً : بهبوطه إلي أسفل : إن المتأمل لابد أن يتبين في وضوح خاصية أخري له في إرشاده إياهم. لأنه ما كان ممكناً له أن يرشدهم بوقوفه في العلو. وإنما بإنحداره إلي أسفل كان يعمل هذا العمل. إذ لا يمكنه وهو في العلو أن يحدد موضعاً ضيقاً مثل كوخ يرقد فيه طفل صغير. وهذا المثال يمكن معرفته من حال القمر - وهو أعظم من كثير من النجوم - كيف يظهر لجميع القاطنين في المسكونة في إتساعها الهائل، ويظن عند كل واحد فيها أنه قريب منه. فقل لي كيف أراهم النجم مكاناً صغيراً كموضوع كوخ ومزود، لو لم يترك ذلك المكان العالي، وينحدر إلي أسفل حتي وقف فوق هامة الصبي.
وهذا ما قد أومأ إليه البشير قائلاً " وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم، حتي جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي " ( متي 2 : 9 ). إن النجم لما عرف الصبي وقف، وكان فوقه هناك، وهو نازل إلي أسفل، شهادة عظيمة. وكان لها تأثيرها القوي علي المجوس فإقتادهم للسجود للصبي. وما سجدوا له كإنسان عادي. فهذا واضح من الهدايا التي قدموها له والتي لا تتناسب مع طفل صغير في أقمطة. أرايت بأية دلائل قد إتضح أن هذا النجم لم يكن واحداً من النجوم العادية ؟
لماذا ظهر النجم للمجوس
لو سألت لماذا ظهر هذا النجم ؟ لأجبتك أن ظهوره يرمز إلي زوال إختيار اليهود. بأن يزيل منهم كل حجة لإعتدادهم بنفسهم، داعياً المسكونة كلها للسجود له. وهكذا من مبدأ مجئ الرب قد فتح الباب للأمم، مريداً أن يؤدب خاصته بالغرباء. لأنه إذ كان قد أرسل إليهم أنبياء عديدين يشرحون لهم وصف مجيئه، ومع ذلك ما أصغوا إليهم، لذلك جعل العجم ( الفرس ) أن يوافوا من أرض بعيدة طالبين رؤية المسلك. فليتعلم اليهود من كلام أهل فارس ما قد رفضوا أن يعرفوه من أنبيائهم. فإن كابروا وجادلوا بعد هذا أيضاً، يعدمون كل عذر وحجة.
لأنه ماذا لهم أن يقولوه، وهم الذين قد رفضوا قبول المسيح علي الرغم مما أرسل إليهم من أنبياء بينما هؤلاء المجوس قد قبلوا الرب وسجدوا له، من مجرد نظرهم إلي نجم واحد ؟! وكما بكتهم الرب بقبول المجوس له وبكتهم أيضاً بإيمان أهل نينوي الأممين. لذلك قال لهم إن أهل نينوي يقومون في يوم الدين، مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان، وهوذا أعظم من يونان ههنا ( متي 12 : 41 ). كذلك بكتهم بالمرأة السامرية، والمرأة الكنعانية، وملكة التيمن، لأن كل أولئك صدقوا بالأقل. أما هؤلاء فلم يصدقوا ولا بالأكثر !...
لماذا إجتذب المجوس بهذه الطريقة ؟
لعل سائلاً يسأل : لماذا إجتذب المجوس عن طريق نجم ؟ نجيب بأن مثلهم ما كان ممكناً لهم أن يصغوا إلي نبي لو أرسل إليهم أحد الأنبياء. وما كان يناسبهم أن يخاطبوا بصوت من العلاء بإرسال ملاك... لذلك دعاهم بالوسيلة التي ألفوها، متنازلاً مع ضعفهم جداً فأراهم نجماً عظيماً مستغرباً، حتي يذهلهم بحسن معاينته، ويقتادهم بطريقة سيره. هذه الطريقة إتبعها بولس الرسول، فأورد شهادة من الشعراء ( أع 17 : 28 ). وناقش كل واحد من الناس بالأسلوب الذي يألفه ( 1 كو 9 : 19 - 22 ). وإستخدم الله أولاً مع اليهود فرائض الذبائح والتطهيرات وباقي تلك الرسوم والفرائض التي بدأ بها نظراً لكثافة عقولهم.
ثم بدلها مجتذباً إياهم قليلاً قليلاً حتي يصلوا إلي الفلسفة العالية. هذا العمل عمله مع المجوس. إستجاز أن يدعوهم بنجم أبصروه ليجعلهم أوفر مما كانوا تمييزاً وإدراكاً. فإذا إقتادهم إلي المزود ورأوا المولود، وصاروا في روحياتهم أفضل مما كانوا، عندئذ يرجعهم إلي بلادهم بواسطة نجم، بل أوحي إليهم في حلم ( متي 2 : 12 ).
لماذا ظهر لهؤلاء المجوس دون غيرهم ؟
ولعل أحد يسأل : من أين لهم أن يصلوا إلي مثل هذ الهمة العظيمة ؟ ومن الذي أنهضهم إلي ذلك السفر الطويل من غيرهم ؟ وعلي حسب ظني أن ما فعله المجوس لم يكن مجرد سجود للنجم، وإنما لله الذي أنهض نفوسهم. كما فعل الرب مثل مع كورش الملك حين إستحثه لبناء بيت للرب ( عز 1 : 2 ). ولكن ربما يقال : لماذا لم يكشف هذا الإعلان للمجوس كلهم ؟ فنجيب : لأنه ما كان منتظراً أن جميعهم يصدقونه.
لكنه كشف الأمر لهؤلاء الذين كانوا أبلغ من غيرهم إستعداداً لقبوله. إن أمماً كثيرة هلكت، ولم يرسل يونان النبي إلا إلي أهل نينوي وحدها. وكان هناك لصان معلقين علي الصليب، فخلص واحد منهما وحده... عجيب هو أمر هؤلاء المجوس الذين أتوا من بلاد بعيدة لرؤية المسيح ! أية خيرات توقعوها ؟... ألعلهم جاءوا إلي ملك ؟ علي أنهم لم يروا ملكاً، وإنما طفلاً في أقماط. أتراهم عاملوه كملك بإعتبار ما سيكون ؟ كلا، فإنه فيما بعد لم يحط نفسه بأي مظهر من مظاهر الملوك، ولم يمتلك حوله خيلاً ولا عبيداً. ولم يستصحب معه سوي إثني عشر رجلاً من المجهولين المساكين... ثم أنهم ما توقعوه ملكاً لهم، بل ملكاً لأمة مضادة لهم، بعيدة كثيراً عن بلدهم.
ولاشك أنهم كانوا يدركون الأخطار التي تحيق بهم في مقابلته. لقد رأوا كيف أن هيرودس الملك قد إرتجف، والمحفل كله إضطرب، إذ سمعوا كلام المجوس. إنهم إذاً يقصدون ملكاً علي بلد متملك عليها ملك آخر... فأي ميتات تنتظرهم ؟! وماذا كانوا ينتظرون من هذا الملك الذي يقصدونه ؟ أي خير أملوا أن يأخذوه، وقد أبصروا أمامهم كوخاً، ومزوداً، وصبياً في أقماطه، وأماً مسكينة. فلأي غرض سجدوا له وقدموا له الهدايا ؟ هل توقعوا خيراً منه في حال الملك الذي ينتظره مستقبلاً، ومن أين لهم أن يعرفوا أن ذلك الطفل سيذكر عندما يكبر ما فعلوه به وهو في أقماطه ؟! ما أعجب فضيلة هؤلاء الذين دفعوا أنفسهم لأخطار كثيرة تاركين بلدهم وأهلهم، دون أي هدف ظاهر سوي أنهم أطاعوا ما وضعه الرب في قلوبهم.
فآمنوا، وأتوا، وسجدوا وقدموا له الهدايا. وإننا نري فضيلة هؤلاء المجوس ليس في مجرد مجيئهم فحسب، بل أيضاً في مجاهرتهم، لأنهم قالوا " جئنا لنسجد له ". وما خافوا غضب الملك. من أجل هذا، أعتقد أن هؤلاء المجوس قد صاروا في أوطانهم معلمين لأهل بلدهم... وبخاصة لأنهم كانوا قد عرفوا من اليهود، أن هذا الذي رأوا نجمه بشر به الأنبياء منذ دهور طويلة.
هل الرعاة والمجوس رمز لليهود والأمم
الرعاة والمجوس رمز لليهود والأمم
يشرح القديس أوغسطينوس هذه النقطة فيقول : كان المجوس أول من آمن من الأمم بالمسيح الرب. ومن الواضح أن أول ثمرة للإيمان بالمسيح بين اليهود كانت الرعاة. أتي الرعاة إليه من قريب، ورأوه في نفس اليوم، إذ وصلت إليهم الأخبار بواسطة الملائكة. أما المجوس، فأتوا من بعيد، وبواسطة النجم. ولكن الإثنين تقابلا عند حجر الزاوية، الذي جعل الإثنين واحداً... البعيدين والقريبين " ( أف 2 : 14 - 17 ). للرعاة قيل " المجد لله في الأعالي "، ومع المجوس تحققت عبارة " السموات تحدث بمجد الله " - مز 19 : 1. الرعاة أتوا من قريب ليروا، والمجوس أتوا من بعيد ليسجدوا.
الرعاة وصلتهم النعمة قبل المجوس، ولكن هؤلاء الأخيرين كان لهم إتضاع أكثر. هذا هو التواضع الذي جعل الزيتونة البرية مستحقة لأن تطعم في الزيتونة الأصلية " ( رو 11 : 17 ). وهذا التواضع يمجده الكتاب المقدس فيمن كانوا أمماً أكثر مما في اليهود. ومن أمثلة ذلك ما قيل عن قائد المئة ( متي 8 : 5 - 10 ) وعن المرأة الكنعانية ( متي 15 : 28 ). إن اليهود أظهروا للأمم المسيح الذي لا يرغبون هم أنفسهم في أن يعبدوه. ونلاحظ من جهة المجوس أن عدم رجوعهم من نفس الطريق، يرمز إلي تغيير في الحياة. فالذين يصلون إلي المسيح، لا يرجعون مرة أخري إلي طريقهم الأول.
يعود القديس يوحنا ذهبي الفم فيقول : " فليخز اليهود الذين أبصروا مجوساً وعجماً قد سبقوهم ولم يأتوا إليه ولا بعد أولئك. وذلك أن ما حدث وقتذاك كان رسماً لما يستأنف كونه : أن الأمم تسبق اليهود... هكذا الذين من بلاد فارس سبقوا الذين كانوا في أورشليم. وهذا المعني ذكره بولس الرسول إذ قال لهم " كان يجب أن تكلموا أنتم أولاً بكلمة الله. ولكن إذ دفعتموها عنكم، وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلي الأمم " ( أع 13 : 46 )... كان واجباً علي اليهود أن يسجدوا مع المجوس ويمجدوا إلههم، لكنهم إرتجفوا وقلقوا. وإستدعي هيرودس المجوس وإستقصي منهم عن وقت ظهور النجم لهم مريداً أن يقتل المولود.