مرقس
الباب الثاني : الإنجيل لمعلمنا القديس مرقس البشير
أقدم إنجيل
+ أجمع كل علماء الكتاب المقدس وكل الدارسين فيه ، علي أن إنجيل مارمرقس هو أقدم ما كتب من الأناجيل . وقد إختلف الكثيرون في تاريخ كتابته . فابن كبر يقول إنه كتب في سنة 45م . والقديس إيريناوس يقول إنه كتب بعد إستشهاد القديسين بطرس وبولس أي بعد سنة 67م . وتتراوح التواريخ الأخري بين هذين ... ورأي القديس يوحنا ذهبي الفم أن مارمرقس كتبه في مصر . ومعني هذا أنه كتب بعد سنة 55م أو حوالي سنة 61م والثابت أيضاً أنه كتب باللغة اليونانية التي كانت معروفة وقتذاك وفي رومية أيضاً ثم ترجم بعد ذلك إلي اللاتينية وإلي القبطية .
الأهتمام بالتدقيق والتفاصيل
+ إمتاز مارمرقس في إنجيله بالتدقيق ، وذكر تفاصيل كل شئ ، سواء في الأسماء ، أو الوقت أو المكان ، أو العدد أو اللون ، وحتي الملامح والمشاعر . مما يدل علي أن الكاتب كان شاهد عيان لما يسجله .
فمن جهة الأسماء مثلاً يذكر أن متي العشار هو إبن حلفي ( 2 : 14 ) ، وأن بارتيماوس الأعمي هو إبن تيماوس ( 10 : 46 ) وأن سمعان القيرواني هو أبو الكسندروس وروفس ( 15 : 21 ) . ( أنظر أيضاً في إهتمامه بالأسماء 1 : 29 ، 13 : 3 ، 3 : 6 ، 15 : 40 ) .
إهتمامه بتفاصيل المكان
+ من أمثلة إهتمامه بتفاصيل المكان قوله ، ثم خرج أيضاً من تخوم صور وصيدا وجاء إلي بحر الجليل ، في وسط المدن العشر ( 7 : 31 ) . وقوله " إنه دخل السفينة وجلس علي البحر ، والجمع كله كان عند البحر ، علي الأرض " ( 4 : 1 ) .
تدقيقه في قوله
+ من أمثلة تدقيقه قوله في معجزة الخمس خبزات أنهم جعلوا الناس يتكئون رفاقاً رفاقاً علي العشب الأخضر .. صفوفاً صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين ( 6: 39 ، 40 ) . وقوله إن المسيح كان نائماً ( علي وسادة ) في السفينة ( 4 : 38 ) وقوله في التجلي " وصارت ثيابه تلمع بيضاء كالثلج لا يقدر قصار علي الأرض أن يبيض مثل ذلك " ( 9 : 3 ) . ( أنظر أيضاً تفاصيل معجزة شفاء المفلوج ، وشفاء مريض به لجيئون ، وكذلك 8 : 7 ، 7 : 28 ، 1 : 13 ) .
شرحه للمشاعر والملامح
+ من إهتمام مارمرقس بالتفاصيل شرحه للمشاعر والملامح : فقد ذكر عن السيد المسيح أنه تحنن ( 1 : 41 ) ، وأنه إنتهر ( 1 : 43 ) ، وشعر بروحه ( 2 : 8 ) ونظر بغضب حزينا! ... ( 3 : 5 ) ، وإلتفت ... شاعراً في نفسه .. ( 5 : 30 ) ، وأنه إغتاظ ( 10 : 14 ) ، وأنه أن ( 7 : 34 ) ، وأنه أشفق ( 8 : 2 ) ، وأن تنهد بروحه ( 8 : 12 ) ، وأنه نظر إلي الشاب الغني وأحبه ( 10 : 21 ) ، وأنه إبتدأ يدهش ويكتئب ( 14 : 33 ) وأنه إحتضن الأطفال وباركهم ( 10 : 16 ) ...
يكتب للأمم ( للرومان )
+ لم يكتب مارمرقس إنجيله لليهود كما فعل القديس متي ، وإنما كتبه للأمم ، وللرومان بوجه خاص . وقد شرحنا سابقاً أنه إشترك مع القديس بولس في تأسيس كنيسة رومة.
الأدلة علي كتابته للأمم
أ- ترجمته للكلمات الأرامية التي يستخدمها.
ب- شرح عادات اليهود وأماكنهم وطوائفهم.
ج- قلة إقتباسه من العهد القديم
أ- ترجمته للكلمات الأرامية التي يستخدمها
+ ترجم إسم " بوانرجس " بأنه يعني إبني الرعد ( 3 : 17 ) ( بينما لم يترجم كلمة بطرس مثلاً ولا غيرها من الكلمات اللاتينية ) . وقال إن عبارة " طليثا " قومي معناها يا صبية قومي ( 5 : 41 ) وإن كلمة " قربان " معناها هدية ( 7 : 11 ) وكلمة " إفثا " معناها إتفتح ( 7 : 34) وإتبع عبارة " جهنم " بقوله " إلي النار التي لا تطفأ " ( 9 : 43 ) . كما أتبع كلمة " أباً " بكلمة الآب ( 14 : 36 ) . وفسر عبارة " الوي الوي لما شبقتني " بأن معناها إلهي إلهي لماذا تركتني ( 15 : 34 ) وأن " جلجثة " معناها جمجمة ( 15 : 22 ) . وطبعاً لو كان يكتب لليهود ما كان في حاجة إلي تفسير شئ من هذا كله ، ولكن الرومان يحتاجون .
ب- شرح عادات اليهود وأماكنهم وطوائفهم
+ شرح مثلاً عبارة " أيدي دنسة " بأن معناها أيدي غير مغسولة . وأتبع ذلك بقوله : لأن الفريسيين وكل اليهود ، إن لم يغسلوا أيديهم بإعتناء لا يأكلون ، متمسكين بتقليد الشيوخ . ومن السوق إن لم يغتسلوا لا يأكلون . واشياء أخري كثيرة تسلموها للتمسك بها من غسل كؤوس وأباريق وآنية نحاس وأسرة ( 7 : 2 - 4 ) . وشرح اليوم الأول من الفطير بأنه " حين كانوا يذبحون الفصح " ( 14 : 12 ) كما شرح الأستعداد بأنه ما بل السبت ( 15 : 42 ) . وشرح أن الفلسين قيمتهما ربع ( 12 : 42 ) ، ولم يفعل ذلك بالنسبة للدينار الخاص بالرومان ( 6 : 3 7) . ولما تكلم عن الصدوقيين قدمهم للقارئ الروماني بأنهم " الذين يقولون ليس قيامة " ( 12 : 18 ) . وطبعاً هذا كله معروف لليهود . ولما تكلم عن المرأة الكنعانية حسب تسمية التوراة لجنسها قال : " وكانت المرأة أممية وفي جنسها فينيقية سورية " ( 7 : 26 ) بالأسلوب الذي يفهمه الرومان . ومن جهة الأماكن كان يوضح ما لا يحتاج اليهود مطلقاً إلي توضيحه . فالأردن كان يسبقه بكلمة نهر ( 1 : 5 ) . كذلك شرحه جلوس الرب علي جبل الزيتون بأنه تجاه الهيكل ( 13 : 3) . ولما ورد ذكر بيت فاجي وبيت عنيا ذكر أنهما بالقرب من أورشليم ( 11 : 1 ) . ولأنه يكلم أهل رومه ، فعندما ورد إسم سمعان القيرواني قال إنه " أبو الكسندروس وروفس " ( 15 : 21 ) . وروفس موجود في رومه . أرسل القديس بولس إليه سلامه عندما كتب رسالته إلي أهل رومية ( رو 16 : 13 ) .
ج- قلة إقتباسه من العهد القديم
+ يعتبر إنجيل متي من أكثر الأناجيل إقتباساً من العهد القديم ، لأنه كتب لليهود . أما مارمرقس الذي كتب للأمم فإن إقتباسه من العهد القديم أقل بكثير من متي ومن لوقا أيضاً .
تقديم السيد المسيح للرومانيين ( للأمم )
+ كان مارمرقس يعرف أن الرومان أهل عمل لا فكر ، فقدم لهم المسيح في عمله وقوته ، وإهتم بأعماله أكثر مما إهتم بتسجيل أقواله . وكان يعرف أن الرومان معتزون بقوتهم كدولة تحكم العالم ، فقدم لهم المسيح القوي إبن الله صاحب السلطة علي كل شئ ...
- سرعة مذهلة في العرض
+ كان مارمرقس يعرف أن الرومان أهل عمل ، مشغولون بالتجارة والسفر والحرب وأشغالهم المتنوعة ، فدخل في موضوعه مباشرة ، بدون مقدمات . لم يتحدث عن أنساب المسيح ولا الحوادث السابقة لمجيئه كالبشارة مثلاً أو ولادة المعمدان أو زيارة العذراء لأليصابات ، أو ولادة المسيح وطفولته ، وإنما بدأ بعمل المسيح من أول إصحاح . وبينما بدأ مار متي إنجيله بقوله " كتاب ميلاد يسوع المسيح إبن داود إبن إبراهيم " ، بدأ مارمرقس إنجيله بقوله :" بدء إنجيل يسوع المسيح إبن الله " . إن الطريق يهئ قدام الملوك ، وهذا الملك الآتي هو إبن الله ، لذلك يوصف من يهئ طريقه بأنه ملاك ( 1 : 2 ) صوته صوت أسد " صارخ في البرية " ( 1 : 3 ) . هذا الملك الذي سيملك علي القلوب ، لابد أن يعد طريقه بالتوبة ( 1 : 4 ، 5 ) . ثم تتلاحق الحوادث بسرعة ... أمام هذا الملك . المعمدان يشهد بأنه لا يستحق أن يحل سيور حذائه ( 1 : 7 ) . السموات تنشق ، ويشهد له الآب أنه الإبن الحبيب ( 1 : 11 ) . والشياطين نفسها تشهد أنه قدوس الله ( 1 : 24 ) . والملائكة تخدمه ، والوحوش معه في البرية ( 1 : 13 ) . وبينما يبدأ متي البشير في ذكر معجزات السيد المسيح الخاصة بالشفاء وإخراج الشياطين من الإصحاح الثامن في إنجيله ، نري مارمرقس يبدأ مباشرة من الأصحاح الأول فيقدم المسيح كصاحب سلطان علي الكل ... يذكر سلطانه علي الشياطين يأمرها فتطيعه ( 1 : 27 ) ، وسلطانه علي الأمراض ( 1 : 34 ) ، وتعليمه بسلطان وليس كاكتبة ( 1 : 22 ) كما ذكر شعبيته الكبيرة وكيف أن الناس " كانوا يأتون من كل ناحية " ( 1 : 45 ) ، وكيف صار له تلاميذ إستجابوا بسرعة لدعوته ( 1 : 16 - 20 ) . كل هذا في الإصحاح الأول من الإنجيل حيث وضح مارمرقس خطته . وحيث كتب في تركيز وقوة ، وبتأثير عجيب . فلنبحث إذن تفاصيل هذه الأمور كلها في إنجيله ، الذي سار بنفس هذه السرعة والوضوح في تقديم قوة المسيح للرومان ، وكيف أن مملكته أعظم من مملكتهم التي يفتخرون بها ...